الصراط المستقيم

السيرة النبوية ( 5) ..”الغلام اليتيم” في الشام وتحذير الراهب بحيرا

بقلم : الدكتور / محمد النجارالسيرة النبوية ( 5) .."الغلام اليتيم" في الشام وتحذير الراهب بحيرا 4

استعرضنا في الحلقة الرابعة نسب النبي وولادته يتيم الأب (ابن الذبيحين)،ومدى فرح  عبد المطلب بمولد حفيده تعويضا عن وفاة ابنه عبدالله ، ورعاية أمه له ووفاتها في طريق عودتها به من عند اخواله(بني النجار) من يثرب الى مكة وعمره سنوات،وكفالة جده له ثم كفالة عمه ابي طالب له،والدروس المستفادة من مولده وحياته يتيما.   ونبدأ  الآن في الحلقة الخامسة بإذن الله :

محمد اليتيم في كنف عمه ابي طالب :

توفى عبدالمطلب بعد توصيته لابنه ابي طالب بحفيده محمد اليتيم الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات،وانتقل محمد الى كنف عمه الشقيق أبي طالب الذي وجد فيه قلبا أميناً وركناً عظيما وسكنا هانئا  . وضم ابو طالب ابن اخيه محمد، فكان يحبه أكثر من أولاده، لاينام إلا إذا اطمأن عليه، ولا يخرجُ من الدار إلا ويأخذه معه. وكان محمد يلمس حنان عمه، ويحبه حبا كبيرا.

مرت سنوات اربع واصبح عمره اثنتي عشرة عاما، وعندما أتمها  تعلق بعمِه الذي تهيأ لرحلة الصيف المعتادة الى بلاد الشام، ووافق أبو طالب على ذهاب ابن اخيه معه ،وانضم الى القافلة.

قال ابن اسحاق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب تجارة  الى الشام، فلما تهيأ  للرحيل وأجمع المسيرَ ، صَبْ رسولُ صلى الله عليه وسلم – تعلق به وامتسك- فرقَ له أبو طالب وقال: والله لأخْرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا، فخرج به معه الى الشام. سيرة ابن هشام ص179

بُصرى بأرض الشام :

وصلت القافلة الى مدينة( بُصرى) التي تقع(حاليا) في جنوب سوريا على بعد(40) كيلومتر من مدينة درعة و (140) كيلومتر  من دمشق وكانت ( بُصرى) نقطة توقف على طريق قوافل الحجيج لمكة المكرمة.

عند الشجرة في مدينة بُصرى:

توقفت القافلة عند شجرة معتادة  في نقطة الاستراحة  ببصرى و التي تستريح فيها كل القوافل العابرة غدوا ورواحا  للحصول على الطعام والشراب  والنوم والراحة  استعدادا لاستكمال المسير .

صومعة الراهب  في  بُصْرى:

تقع صومعة الراهب  بحيرا  على تلة متوسطة في تلك المنطقة تطل على الطريق، ترقب القوافل التي تدخل وتخرج ،ومن باب الصومعة ظهر  الراهب(بحيرا) وهو ينظر بدهشة الى القوم القادمين من مكة ،وركز نظره على الشجرة التي يستريحون تحتها ! ما الخبر ياترى؟ ماالسبب الذي جعل أغصان الشجرة تتمايلُ وتنُحني والريح غير موجودة في تلك الايام ؟

إن التمايل والانحناء على غلام صغير دون سائر القوم!!

إن الراهب بحيرا مشهور بعلمه وقراءته  في التوراة والانجيل، ويعرفُ أن في هذين الكتابين إشارات ودلائل على نبي سيظهرُ في بلاد العرب  وهذا وقته ، وله صفات وملامح قد انطبقت من النظرة الاولى على هذا الغلام.

قصص السيرة-القسم الاول-محمد موفق سليمة ص118-119

قال بن اسحاق :فلما نزلوا  قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا  وارسل اليهم فقال: إني صنعتُ لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحبُ أن تحضروا كلُكم صغيركم وكبيرُكم  وعبدُكم وحركم .

فقال له رجل من القوم : و الله يا بحيرا  إن لك لشأنا اليوم، فما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا  نمرُ بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟

قال له بحيرا : صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيفُ، وقد احببتُ أن أكرمكم واصنع لكم طعاما  فتأكلوا  منه كلكم.  فاجتمعوا اليه ،وتخلف(الغلام – رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ) من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرى في القوم  لم يرَ الصفة التي يعرفُ ويجدُ  عنده ، فقال : يا معشر  قريش ، لا يتخلفن أحدٌ منكم عن طعامي، قالوا له :يا بحيرى .. ما تخلف عنك احدٌ ينبغي له أن يأتيك إلا غلامٌ ،وهو أحدث القوم سنا ، فتخلف في رحالهم ،فقال : لا تفعلوا ،ادعوه فليحضُر  هذا الطعام معكم .  قال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى ، إن كان للؤم ْ بنا أن يتخلَف ابن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ، ثم قام إليه فاحتضنه واجلسه مع القوم.

فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر  الى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ  القوم  من طعامهم  وتفرقوا ، قام اليه بحيرى، فقال له : يا غلام :اسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما . فرد عليه الغلام (رسول الله صلى الله عليه وسلم): لا تسألني  باللات والعزى ،فو الله ما أبغضت شيئا قطُ بُغضَهما.   فقال له بحيرى :  فبالله  إلا ما أخبرتني عما اسألك عنه . فقال له : سلْني عما بدالك. فجعل يسأله عن اشياء  من حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل (الغلام) يُخبره، فيوافق ذلك ما عند  بحيرى من صفتِه، ثم نظر الى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.     سيرة بن هشام ص 182

فلما فرغ أقبل على عمِه أبي طالب،  فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال : ابني. قال له بحيرى: ما هو  بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حياً.   قال : فإنه ابنُ أخي ، قال : فما فعل أبوه؟ قال : مات وأمه حُبْلى به ، قال : صدقت.

وصية الراهب  بحيرا  لأبي طالب :

ارجع بابن اخيك  الى بلده ، واحذر عليه يهود، فو الله  لئن رأوه  وعرفوا  منه ما عرفتُ لَيَبْغُنً شرا، فإنه كائنٌ لابن أخيك  هذا شأنٌ عظيم ، فأسرع به الى بلاده.                 سيرة بن هشام ص 181

عودة نهائية : شكر ابو طالب الراهب على نصيحته وادرك ان مستقبلا عظيما ينتظر ابن اخيه،وان عليه أن يحفظ السر ، وأن اليهود يترقبون خبرا  عن نبي العرب  المنتظر حتى يعرفوا مكانه ويقتلوه.

دروس مستفادة  من رؤية بحيرا الراهب لمحمد :

  1. اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
  2. نستدل من حديث بحيرا الراهب أن أهل الكتاب اليهود والنصارى كان عندهم علم ببعثة  النبي محمد وعلاماته وصفاته.

     ولما نزلت الاية” الذين آتيناهم الكتاب  يعرفونه كما يعرفون أبناءهم” سورة البقرة146 ، سأل عمر ابن الخطاب (عبدالله بن سلام)وكان كتابيا وأسلم ، سأله: أتعرف محمداً صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال : نعم وأكثر ،بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في  أرضه ينعته فعرفته، أما ابني فلا ادري مالذي قد كان من أمه.

     كان لدى  سلمان الفارسي علم ببعثة النبي وصفاته من الانجيل والرهبان  وكان هذا من اسباب   تتبعه  لظهور النبي، فتعرف عليه ، ودخل في الاسلام

  1. تحذير بحيرا  لأبي طالب من اليهود وخطرهم على النبي صلى الله عليه وسلم ،حيث كانوا يتوقعون ان يكون النبي منهم، فكانوا  يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه ويقولون لهم : “إن نبيا سُيبعث قريباً سنتبعه فنقتلكم معه مثل عاد وإرم  ”  ، لكن نكثوا عهدهم  أنزل الله  في ذلك قوله ” ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين “
  2. وردت بعض الروايات تحذير الراهب بحيرا  من النصارى  وبين له أن الروم إذا عرفوه بالصفة سيقتلونه،لأنه بمجيئه سيقضي على نفوذهم الاستعماري في المنقطة، ومن ثم فهو العدو الذي سيقضي على مصالح دولة روما ويعيد  هذه المصالح  أربابها وهذا مايخشاه الرومان.
  3. انكار أهل الكتاب لقصة بحيرا  هو اظهار للحقد الصهيوني المسيحي وعداءهم للإسلام ونبييه صلى الله عليه وسلم.
  4. مرور النبي محمد بتجربة لم يخوضها أي نبي قبله في السفر مع عمه واشياخ قريش  لديهم خبرة  في مجال السفر والتجارة  بالاضافة لقصته مع بحيرا الراهب .

عودة النبي الى مكة واشتغاله بالرعي :

رجع محمد صلى الله عليه وسلم الى مكة مع عمه كثير العيال  قليل المال، وشعر أن الحياة تحتاج الى عمل ومال ونفقة ، وعليه ان يفكر في مساعدة عمه.  لكن ماذا يستطيع ان يفعل ذلك الغلام الصغير في مكة التي تعمل في التجارة والسفر  في رحلتي الشتاء والصيف وقد خاض تلك التجربة وقد سمع تحذير  الراهب بحيرا  له .  وماذا يفعل في مكة القاحلة الجرداء التي لاتصلح فيها الزراعة  من قريب او بعيد، فلا ينبت فيها شجر أو نبات.  وماذا يعمل في مكة وهي لاتحتوي على أي صناعة يمكن ان يعمل فيها الصبيان بأجر معقول!!

فليس أمامه الى سفوح مكة  حيث العشب والشوك والعمل برعي الغنم .

فبدأ بالسعي للرزق  برعي الغنم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم متحدثا عن نفسه :  ” كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ” رواه البخاري

دروس مستفادة من رعي الانبياء للغنم :

  1. طبيعة الحياة التي يرتضيها الله للأنبياء والصالحين من الكدح لاكتساب الرزق، وكان سهلا على الله أن يرزق نبيه بلا تعب ويهيئ له اسباب  الرفاهية لكن اقتضت حكمة الله ان يكتسب النبي من عمل يده .
  2. اقتضت حكمة الله ان يكون النبي أسوة للأمة والبشرية اجمع ،وأن تتعلم منه السعي لبناء المجتمع بالجد والاجتهاد وبناء الامة بأيادي أبنائها  وليس الاعتماد  على الامم الاخرى تفاديا  للخضوع والانقياد للأمم الاخرى.
  3. يكتسب الانبياء صفة التواضع برعايتهم للغنم ويعتادوا  الخلوة  ويترقوا من سياستها الى سياسة الامم.
  4. اذا استرعى الرجل الغنم التي هي أضعف البهائم سكن في قلبه الرأفة والسكينة ، فيكون قد تخلص من حدة  الطبع وتخلص من الظلم الغريزي .
  5. التخلص من الفخر والخيلاء مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل, والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم. وفي رواية: والسكينة والوقار في أهل الغنم. متفق عليه.
  6. اكتساب الشجاعة، فراعي الغنم يتعرض لمخاطر كثيرة مثل الوحوش والسباع الضارية ، كما يتعرض للصوص وقطاع الطرق فعليه الحماية لنفسه وللغنم التي يتولاها ، كما عليه اليقظة الدائمة والتصرف بحكمة .
  7. اكتساب الحكمة فإن الشجاعة يجب أن تحاط بالحكمة حتى لا تصل الى حد التهور، وتكفي أن تكون في نطاق الحماية والدفاع عن النفس.
  8. الاعتياد على حب الكسب من عرق الجبين، والرضا بما كسبت يده ولو كان قليلا مما يجعله يستشعر بالمسئولية والاستغناء عما في ايدي الاخرين وعدم مد يده الى الحرام،مثل الرشوة وفساد الذمم الذي يفسد الافراد  والمجتمعات ويشيع فيه الفوضى والخراب وتخلف المجتمع. وما نراه في مجتمعاتنا الاسلامية ماهو إلا فقدان لقدوتنا  برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

حفظ الله لمحمد في سن المراهقة :

يسعى الغلمان في  المرحلة العمرية التي كان يمر بمثلها محمد (الغلام ) وهو في الثانية عشرة وما بعدها للعب والميل للهو  والعبث ، وقد حاول محمدٌ في صغره  إلا ان الله قد حفظه .

يقول النبي فيما يرويه عن نفسه :

” ما هممت  بشئ  مما كانوا  في الجاهلية يعملونه غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت  به حتى أكرمني الله بالرسالة . قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت  لي غنمي  حتى أدخل  مكة وأسمر  بها كما يسمر الشباب ، فقال : أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار  بمكة سمعت عزفا فقلت : ماهذا ؟ فقالوا :عُرس ، فجلست  أسمع ، فضرب الله على أذني ، فنمت  فما أيقظني إلا حر الشمس ، فعدت الى صاحبي ، فسألني فأخبرته.

ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة ، ثم ماهممت  بعده بسوء ”

رواه ابن الاثير  والحاكم عن على بن ابي طالب ،وقال عنه صحيح على شرط مسلم ،ورواه  الطبراني من حديث عمار بن ياسر

انتهت الحلقة الخامسة ونلتقي معكم  بإذن الله في الحلقة السادسة  يوم الجمعة القادمة

السيرة النبوية ( 5) .."الغلام اليتيم" في الشام وتحذير الراهب بحيرا 5
د.محمد أحمد النجار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.