الصراط المستقيم

السيرة النبوية (51) مواجهة النبي لمشكلة السكان والهجرة ..”المؤاخاة”

بقلم / الدكتور محمد النجار

أليست  الحكومات تعاني من السكان وأعباءها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ، وتصرخ إذا تعرضت لموجات هجرة إليها لأنها تشكل عبئا وضغطا إضافيا على مواردها الاقتصادية ،  ورأينا كيف  رفضت بعض حكومات الدول الاوربية استقبال المهاجرين  السوريين وغيرهم القادمين اليهم بالبحر  فرارا مما يتعرضون له في أوطانهم من دمار وقتل للرجال والنساء والاطفال  تحت وابل قنابل وصواريخ  انظمتهم الطاغية وحكامهم البغاة، وتركوهم يموتون  غرقا في البحار والمحيطات.

  وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة عندما هاجر كل أصحابه من مكة الى المدينة فرارا من تعذيب الطغاة والجبابرة تاركين وراءهم كافة  أعمالهم ومصادر رزقهم وكل ممتلكاتهم المالية والعقارية ، ووصلوا المدينة لايملكون شيئا في مهجرهم ومجتمعهم الجديد ، فلا سكن يأويهم ولا مال يدبرون به معيشتهم . وقد حل رسولنا الكريم بطريقة عبقرية غير مسبوقة في التاريخ وتمثل في :

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار 

أدت الهجرة من مكة الى المدينة  الى تنوع سكان المدينة   ، فلم يعد مجتمع المدينة يقتصر على الأوس والخزرج ويهود ، بل ضم اليهم المهاجرين من قريش وقبائل العرب الأخرى.ولا يوجد إحصاء دقيق لعدد المهاجرين ولكن ابن هشام (السيرة 2/115 -144،342-346)وابن سعد(الطبقات 2/12) سَمِّيَا عددا منهم ، وكان من اشترك منهم في بدر ثلاثة وثمانين رجلا ، وربما كان عدد المهاجرين حتى بدر لا يتجاوز – مع عوائلهم – اربعمائة نفر  .

وأدى تدفق المهاجرين الى المدينة لظهور مشاكل اقتصادية واجتماعية ، وكان لابد من قرار حاسم لمواجهة تلك المشاكل ، وكان الحل في قرار المؤاخاة الذي طبقه رسول صلى الله عليه وسلم .

واصبح مجتمع المدينة يتكون من :

1-            الانصار  من قبيلتي الأوس والخزرج.

2-            المهاجرين الذين قدموا من مكة وقبائل العرب الاخرى.

3-            اليهود ، وأهم قبائلهم بنو قينقاع وبنو  قريظة و وبنو النضير .

   وكان على النبي صلى الله عليه وسلم ان يجد وسيلة تجمع ابناء المجتمع الجديد حتى يكون مجتمعا مؤتلفا ومتعاونا متماسكا وتذوب فيه الطبقات وتُمحى الفوارق حتى يستطيع ان ينهض بالإسلام ودعوته.

وكانت أقرب وأقوى رابطة  تربط أفراد هذا المجتمع الجديد هي عقد المؤاخاة على أساس العقيدة .  فعقد النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار عقداً بموجبه يتآخى  المسلمون على المواساة ، وأدى عقد المؤاخاة الى تسابق  الانصار   في مؤاخاتهم لإخوانهم المهاجرين حتى وصل بهم ألامر على الاقتراع فيما بينهم على السبق في عقد تلك المؤاخاة مع المهاجرين، وكانوا يحكِّمونهم في بيوتهم وأثاثهم وأموالهم وأرضهم وكراعهم  (أي الخيل والحمير والبغال) ، ويؤثرونهم على أنفسهم.

وضربوا أعظم أمثلة انسانية لدرجة أن يقول الانصاري للمهاجر : انظر شطر مالي فخذه ، ويقول المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك ،ودُلَّني على السوق ، فكان من الانصار الإيثار ، ومن المهاجرين التعفف وعزة النفس .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((تآخوا في الله أخوين ، ثم أخذ بيد على بن ابي طالب ، فقال هذا أخي))  .

فصار  النبي صلى الله عليه وسلم – وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم – وليس له نظير في البشر- أخا لعلي بن ابي طالب ، وصار حمزة – أسد الله تعالى ، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم- أخا  لزيد بن حارثة – وهو مولى أي خادم رسول الله ، وأوصى حمزة اليه عند القتال  في غزوة احد اذا استشهد .

وصار جعفر بن ابي طالب – الطيار ذو الجناحين الى الجنة – أخا لمعاذ بن جبل، علما بأن جعفر بن ابي طالب كان وقتها مهاجرا في ارض الحبشة ، وابو بكر الصديق رضي الله عنه وخارجة بن زهير أخوين ، وبلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي رويحة التي ظلت الاخوة بينهما حتى خرج بلال الى الشام واقام فيها مجاهدا ، وسأله عمر بن الخطاب عندما انشأ الدواوين : إلى من تجعل ديوانك؟ فقال :مع أبي رويحة لا أفارقه أبدا ، وذلك للإخوة التي كان عقدها بينهما النبي صلى الله عليه وسلم .

وبهذا التآخي حل النبي صلى الله عليه وسلم مشكلات الهجرة بأسهل طريق وبكل الحب والطمأنينة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم  في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه مسلم.

لقد كان عقد  التآخي بين المهاجرين والأنصار مبنيا على عقيدة التوحيد ، التي وضعت كل الناس في مصاف العبودية لله دون النظر لأي نسب سوى  نسب التقوى والعمل الصالح، قال الله تعالى ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )). الحجرات13

   ولم تكن المؤاخاة  مجرد شعار يتحدثون ويفخرون به ، وإنما كانت واقعا عمليا و سلوكا فعليا وتضحية  بالدماء والأموال والمؤانسة والمواساة والإيثار في حياة الصحابة الذين تربوا على الولاء لله ولرسوله والمؤمنين ، ونابعا من الفهم الصافي  لدينهم وعقيدتهم.  وقد شهد لهم القرآن الكريم :((وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))الحشر9.  

وحول المؤاخاة قال الدكتور مصطفى السباعي:

في مؤاخاة الرسول بين المهاجرين والانصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الاسلام الانسانية الاخلاقية البناءة ، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم ، فجاءوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئا ، والانصار  قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم ، فيحمل الأخ أخاه ، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها ، ولينزله في بيته ما دام  فيه متسع لهما ، وليعطه نصف ماله ما دام غنيا عنه ، موفرا له ، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الإخوة ؟؟  .

وامتلأت قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحب في الله  الذي يبني الأمة الاسلامية بعيدا عن الأنانية والعصبية والقومية .

و بهذا أختم  الحلقة (51) ونلتقي الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة (52) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الاعلى من الجنة .

د. محمد احمد التجار

الجمعة 9 ربيع الآخر1441هـ

الموافق 6 ديسمبر 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.