الصراط المستقيم

السيرة النبوية (52) قصص انسانية بين الصحابة لم يشهدها التاريخ

الصحابي الفقير المتعفف يسجل أسرع قصة ثراء لإنسان في التاريخ

 

بقلم/ الدكتور محمد النجار

     امتلأت المدينة المنورة بقصص انسانية  مثالية رائعة فاقت الخيال في التضحية بين المهاجرين (الذين فروا للنجاة من سجن وقتل وتعذيب طغاة مكة وزبانية جبابرتها) وبين الانصار (الذين استقبلوهم في المدينة بالحب والمؤاخاة والتضحية) والتي  لم يسبق حدوثها في  تاريخ أي أمة من الأمم منذ فجر التاريخ  حتى ظهور الاسلام .

     ولولا اشارة القرآن الكريم وأحاديث رسول الله ﷺوالوقائع الموثقة لهذه الأحداث لقلنا ان هذه القصص يستحيل حدوثها وأنها من نسج الخيال.    ولقد انتقلت هذه القصص الإنسانية من عالم المثاليات الى عالم الواقع المحسوس.  وليس هذا غريبا على هذه الأمة التي وصفها الله تعالى بأنها خير أمة أُخرجت للناس ، وأنها الأمة التي أوكل الله إليها مهمة الانبياء والرسل بعد نبيها ورسولها ﷺالذي وصفه الله بأنه خاتم الانبياء والمرسلين. 

     مما يجعلنا نقف أمام بعض هذه الصور الانسانية لنستلهم منها الدروس والعِبر ، ولنجدد العهد مع الله ورسوله لمحاولة تحقيق هذه الصور من جديد في واقعنا المعاصر ، حتى تعود الأمة المسلمة الى سالف عهدها وإلى مكانتها التي أرادها الله لها : “كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” .

ومن الأمثلة الانسانية الواقعية لتلك المؤاخاة بين المهاجرين والانصار مايلي :

أسرع ثراء لإنسان في التاريخ

مؤاخاة عبدالرحمن بن عوف  وسعد بن الربيع وأسرع ثراء لإنسان في التاريخ

عندما قدم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه الى المدينة فقيرا ، آخى النبي ﷺبينه وبين الانصاري  الخزرجي سعد بن الربيع.

فقال سعدُ بنُ الرَّبيع: قد عَلِمَتْ الأنصارُ أني من أكثرها مالاً، سَأُقَسِمُ مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانْظرْ أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلتْ تزوَّجْتَها.

تأمل  اخي القارئ تلك الكلمات من سعد بن الربيع!! 

فهل كان “سعد بن الربيع الانصاري”  قائل تلك الكلمات  بشراً عاديا مثل كل البشر  ليتنازل بسهولة عن نصف ماله؟؟ ويتنازل عن زوجته ليتزوجها غيره؟؟.

إن الدماء العربية جُبلت على الغيرة الشديدة على النساء ، ولديها خطوط حمراء غير مسموح بها للأخرين تجاوزها أو الخوض فيها ، وهي تطابق الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس عليها ، فكيف بمن يَعْرِضُ بنفسه طلاق زوجته ، ليتزوجها شخص آخر؟؟

لكنها التربية النبوية التي تلقاها سعد بن الربيع على يد رسول اللهﷺ، وعاش في ظلال كتاب الله ، وأدرك القيمةَ الغاليةَ الثمن والمشاعر النبيلة التي تفيض على قلبه  عندما يقوم بتفريج هَمِ أخيه المسلم عبدالرحمن بن عوف الذي هَجَرَ وطنه ، , وترك داره وماله وأهله في سبيل دينه واللحاق برسولهﷺ. نعم انه انسان من لحمٍ ودمٍ مثل باقي البشر لكنه ارتقى مع كتاب الله وتربى على يد رسول الله ﷺ، فاستطاع بهذه التربية أن يُؤْثِرَ أخاه عبدالرحمن بن عوف بماله وزوجته.  فلم يقل : إني ذو مال ((فقط)) بما يحتمل ان يكون مالا قليلا ، فلا يعطي منه سوى القليل، وإنما اعترف  بفضل الله وبنعمته  عليه بالمال والإيمان ، فقال: إني أكثر الانصار مالاً ، فَأقْسِمُ لك نصف مالي!!!

يا الله على هذه النفوس العالية الراقية التي استمدت  الوفاء والمحبة والاخلاق من دين الله ..

إنها المحبَّة في الله .. فأى محبَّة تفوق هذه المحبة؟؟

وتأمل أخي القارئ رد الطرف الآخر عبدالرحمن بن عوف !!

قال عبد الرحمن بن عوف: “بارك اللهُ لك في أهلِك ومالِك”. دُلني على سوق المدينة ؟

وكان وقتها سوقُ قينُقاع.

ثم تأمل هذا المُهاجر “عبدالرحمن بن عوف” – وكيف تَأَثَّرَ بتربية النبيﷺ، والذي لم يستغل أخاه في الله  “سعد بن الرَّبيع” ، ولم يقل في نفسه إذا كان لسعد بن الربيع كل هذا المال الوفير ، فما الذي يضيره إنْ أخذت جزءا من هذا المال برضاه!!

ولم يقل أن لسعد بن الربيع زوجتان، فما الذي يمنعنى أن اقبل الزواج من إحدى زوجتيه برضاه ورضاها،  وبدون أي تكاليف خاصة ونحن في تلك المحنة !!

فرصة فقير معدوم .. لم يتحول الى غني معلوم!!!!!

أمام ذلك العرض المُغري من الرجل الثري “سعد بن الربيع” والذي كان بموجبه سيتحول عبدالرحمن بن عوف “الفقير” المُعدم في “لحظة واحدة” ..و..”بمالٍ حلال” من فقير معدوم الى ثري معلوم ، لم يكن منه سوى التعفف  والزهد فيما عند أخيه ، والدعاء له بالبركة.

فقال عبدالرحمن بن عوف لأخيه وبكل حب : بارك الله لك في مالك وأهلك ، دُلني على سوق المدينة.

وخرج عبدالرحمن بن عوف إلى السوق ، واشترى الأَقِطُ  والسمن – وبدأ يبيع ويشتري ويربح ، وهذا يدل على حرص هذا الصحابي على العمل وألا يكون عالة على غيره .  ثم تزوج بعد مدة قليلة ، وجاء إلى النبيﷺوعليه أثر الزواج، فقال له النبي : مَهْيَمْ  – أي ماورائك؟؟ فقال: تزوجت امرأة من الأنصار، قال مَا أَصْدَقْتَهَا؟ قال: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ : ” أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ”  .

واجتهد عبدالرحمن بن عوف في تجارته حتى بارك الله له ، واصبح من كبار أغنياء المسلمين.

سجلات التاريخ تشهد

 لقد سطر هذان الصحابيان بحروف من ذهب مواقف إنسانية نورانية لم تشهدها البشرية منذ آدم عليه السلام ، ولم تشهد مثيلاتها أي أمة من الامم السابقة ، وستظل صفحات التاريخ تذكر لهذين الصحابيين مواقفهما المضيئة التي تشرح صدور المؤمنين وتضرب أعظم الصور الانسانية بمواقفهم المثالية التي تحولت الى واقع حقيقي عايشه الصحابة الكرام ، ونقلته لنا الأيادي الطاهرة الصادقة في سجلات التاريخ الناصع لهذه الأمة ، مما يُدلل على امكانية تكرارها عندما تمتلأ قلوبنا بالايمان الحقيقي الذي تكون فيه أجسادنا على الارض بينما تحلق أرواحنا في سماء الله وعلياءه.

وفى هذا يقول الشاعر:

فَتَشَبَّهُوا إنْ تَكُونُوا مَثْلَهُمْ…..

إنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ

كم بلغت ثروة الفقير المتعفف عبدالرحمن بن عوف

توفى عبدالرحمن بن عوف وترك مالاً عظيماً وذهباً يُقطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه  .

بلغت ثروة عبدالرحمن بن عوف الملايين في عصره ، وإذا اُحتسبت بمعايير العصر الحديث ستساوي مليارات.  وقد استوفى صاحب تاريخ دمشق أخبار عبدالرحمن بن عوف في أربعة كراريس  .

عن أنس قال: رأيتُ عبدالرحمن بن عوف، قُسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائةُ ألف.

فمات عبدالرحمن بن عوف وعنده اربع نساء ، أي حصلوا على الثُمْنِ ومقداره اربعمائة ألف ، معناه انه كان يمتلك ثلاثة ملايين ومائتي ألف ، بخلاف ما أنفقه في سبيل الله ، وهذه ثروة ضخمة لو كانت بسعر اليوم كانت ستساوى مليارات بالفعل .

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺقال : “خيارُكم خيارُكم لنسائي ” فأوصى لهن عبدالرحمن بن عوف بحديقةٍ ، قُّوَّمتْ بأربع مائة ألفْ  .

عن طلحة بن عبدالله بن عوف قال: كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف : ثُلثٌ يُقرِضُهم ماله ، وثلثٌ يقضي دينهم ، ويَصِلُ ثٌلثاً  .

وعن الزهري أن عبدالرحمن بن عوف أوصى للبدريين، فوجدوا مئةً ، فأعطى كل واحدٍ منهم أربعمائة دينار ، فكان منهم عثمان ، فأخذها .  وفي رواية أنه اوصى بألف فرس في سبيل الله .

وقال جعفر بن برقان : بلغني أن عبدالرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بيت  .

تواضع عبدالرحمن بن عوف رغم ثراءه

روت كتب التاريخ ان عبدالرحمن بن عوف كان من أغنى الناس في عصره والتي بلغت ثروته المليارات ، ومع ذلك كان من أشد الناس تواضعا  لدرجة أنه لم يكن يُعرف من بين عبيده .  عن ضمرة بن ربيعة : عن سعد بن الحسن قال : كان عبدالرحمن بن عوف لا يُعرف من بين عبيده  .

إن افضل اعمال الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف انه رفض الخلافة مرتين :

المرة الاولى : عندما طَعن أبو لؤلؤة  المجوسي عمر بن الخطاب وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر، اختار عمر ستة من الصحابة..  ليختاروا من بينهم الخليفة، قائلا «لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض»، وكان من بين هؤلاء الستة  عبدالرحمن بن عوف ، وقد تنازل عن حقه في الخلافة  للخمسة الباقين ، ولم يعطها لأقرب الناس إليه ابن عمه سعدَ بن ابي وقاصٍ ، بل اعطاها لعثمان بن عفان حينما أصبحت بين عثمان وعلي بن أبي طالب، فرضي علي بن ابي طالب وقال:إني سمعتُ رسول الله ﷺيقول : إنك أمينٌ في أهل السماءِ ، أمينٌ في أهل الأرض”  .

المرة الثانية : عندما  مرض عثمان بن عفان ، فدعا  خادمه حُمْرَانَ،فقال: اكتب لعبدالرحمن بن عوف العهدَ من بعدي، فكتبَ له، فَانْطَلَقَ حُمْرَانُ الى عبدالرحمن بن عوف وقال له : لِيَ الْبُشْرَى!! فقَالَ عبدالرحمن بن عوف : عن ماذا ؟ قَالَ : إِن عُثْمَانَ بن عفان كتبَ لَكَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ . فبكى عبدالرحمن بن عوف وذهب الى عثمان ، وقال : أَكانَ يصلحُ لك أن تكتبَ ليَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِكَ ، وَاللَّهُ يعلمُ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُحَاسِبَنِي فِي أَهْلِي أَلَّا أَكُونَ أَعْدِلُ بينهمْ ، فكيف بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ؟

ثم توجه  الى مسجد رسول الله ﷺ، وقام يصلي  بين القبر والمنبر”أي في الروضة” يدعو ويقول : اللهم إنْ كان من تولية  عثمان إياي هذا الأمر ، فأمتني قبله ، فلم يمكث إلا ستة أشهر حتى قبضه الله .

     انها الامانة التي امتلأت بها قلوب صحابة رسول الله ﷺ، فارتقت نفوسهم واصبحت الدنيا لاتساوي عندهم جناح بعوضة ، بينما نرى في عصرنا الحاضر مَنْ يتقاتلون على كرسي الرئاسة،ويقتلون شعوبهم ويدمرون أوطانهم،بل ويبيعون دينهم وأرضهم ومقدساتهم لأعداء أمتهم  من أجل كرسي الرئاسة .. لقد اُبتليت الأمة في عهدها الحاضر بأمثال هؤلاء ونسأل الله ان يقيض لها من يعيدها الى دينها ويحرر ابناءها الذين يحررون أرضها و مقدساتها  .

عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة

نذكر أن عبدالرحمن بن عوف  هو أحد المبشرين بالجنة.  وهو أحد أثنين صلى خلفها  النبي صلى الله عليه وسلم هما : أبو بكر الصديق ، وعبدالرحمن بن عوف  ، ولم يصل خلف أحد سواهما  .

عائشة تعرض على عبدالرحمن بن عوف الدفن بجوار النبي

عندما مرض عبدالرحمن بن عوف ، أرادت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن تخصه بشرف عظيم لم تخص به سواه ، فعرضت عليه وهو على فراش الموت  أن يُدفن في حجرتها بجوار النبي ﷺ وأبي بكرٍ وعُمر، ولكنه استحى أن يرفع نفسه الى هذا الجوار مع هؤلاء الكِبار. وطلب أن يُدفن بجوار  صاحبه عثمان بن مظعون ، فقد كانا تواثقا على أيهما يموت بعد الآخر أن يُدفن بجوار صاحبه .. وقد جاء الموعد ليفي بالوعد ويُدفن في البقيع بجوار صاحبه عثمان بن مظعون .  .

وكانت آخر كلماته وهو يتمتم على فِراش الموت وعيناه تفيضان بالدمع : (إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ) .  أتلك الكلمات الحزينة رغم كل هذا الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟ وكل هذا الانفاق في سبيل الله؟؟

ثم اشرقت روحه وغشيته السكينة ولعله يسمع بهدوء ما وعده ﷺ ((عبدالرحمن بن عوف في الجنة)) .. وفاضت روحه الطاهرة الى الله ليلحق بالنبي ﷺ واصحابه الكرام.

و بهذا أختم  الحلقة (52) ونلتقي الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة (53) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الاعلى من الجنة .

   د. محمد أحمد النجار 

الخميس  (22ربيع الآخر1441هـ)

الموافق 19 ديسمبر 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.