الصراط المستقيم

السيرة النبوية (6)مرحلة المراهقة والشباب في حياة محمد

بقلم : الدكتور محمد النجار

استعرضنا في الحلقة الخامسة سفر الغلام محمد مع عمه ابي طالب الى الشام ورؤية  الراهب(بحيرا)له وماحوله من مشاهد نورانية  تؤكد له انه النبي المنتظر حسب الوارد في التوراة والانجيل ،وتوصيته لعمه بمغادرة الشام والعودة الى مكه خشية أن يراه اليهود فيقتلوه.   ونبدأ  الآن في الحلقة السادسة بإذن الله : (عنوان الحلقة : مرحلة المراهقة والشباب في حياة محمد)

العودة الى مكة وحكمة الله ان يعمل محمد في الرعي :

لم يتمكن محمد من العمل مع عمه في  أول سفر له  الى الشام بعد تحذير (الراهب بحيرا )وعودته الى مكة، لكن عمه  صاحب   أسرة  كثيرة العيال وقليلة المال، وشعر أن الحياة تحتاج الى عمل ومال ونفقة ، وعليه ان يفكر في مساعدة عمه.  لكن ماذا يستطيع ان يفعل ذلك الغلام الصغير في مكة التي تعمل في التجارة  في رحلتي السفر في  الشتاء والصيف وقد خاض تلك التجربة و سمع تحذير  الراهب بحيرا  له؟ وماذا يفعل في مكة القاحلة الجرداء التي لا تصلح فيها الزراعة  من قريب او بعيد، فلا ينبت فيها شجر أو نبات.  وماذا يعمل في مكة وهي لا تحتوي على أي صناعة يمكن ان يعمل فيها الصبيان بأجر معقول!!

فليس أمامه سوى سفوح مكة  حيث العشب والشوك والعمل برعي الغنم .فبدأ بالسعي للرزق  برعي الغنم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم متحدثا عن نفسه :  ” كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ”   (رواه البخاري)

محمد في سن المراهقة :  (عمره 12عام)

يسعى الغلمان في  المرحلة العمرية التي كان يمر بمثلها محمد (الغلام ) وهو في الثانية عشرة وما بعدها وهي سن المراهقة  يسعى للعب والميل للهو  كطبيعة فطرية، وقد حاول في صغره  أن يلهو اللهو البسيط مثل أقرانه  إلا ان الله قد حفظه.

صحيح ان محمدا  قد عمل راعي غنم إلا أنه كان في رعاية راعي العباد عز وجل ، فالله تعالى لم يتركه يشبُ كما يشبُ الرعاة في مكة، بل حفظه، لم يتركه يلهو بعادات  جاهلية أو ينحرفُ الى المخاصمة مع الصبيان أو سبهم وشتمهم، أو التضارب معهم، فما  عُرف عنه  في صغره ورعيه للغنم أنه نازع راعيا أو  حقد على صبي، أو حسد مُنعماً  مُترفاً، بل كان أحسنهم خُلقا واكرمهم مخالطةً،وأبعدهم عن اللهو والفُحْش والاخلاقِ الرذيلة.

يقول النبي فيما يرويه عن نفسه :

” ما هممت  بشئ  مما كانوا  في الجاهلية يعملونه غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت  به حتى أكرمني الله بالرسالة ،قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت  لي غنمي  حتى أدخل  مكة وأسمر  بها كما يسمر الشباب ، فقال : أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار  بمكة سمعت عزفا فقلت : ما هذا ؟ فقالوا :عُرس ، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني ، فنمت  فما أيقظني إلا حر الشمس ، فعدت الى صاحبي ، فسألني فأخبرته.  ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة ، ثم ماهممت  بعده بسوء ” (رواه ابن الاثير  والحاكم عن على بن ابي طالب ،وقال عنه صحيح على شرط مسلم ،ورواه  الطبراني من حديث عمار بن ياسر).

لقد بلغ سن الشباب  لكنه لم يعبث كما يعبثُ الشبابُ، وابتعد بطبعه عن المآثمِ وأماكنِ الريبة واللهو والفحش، فلم يرهُ أحدٌ يشربُ الخمر َ مع الشاربين، ولا يلعب القمارَ مع المقامرين،ولم يسجد   لصنم قط ولا يتلفظُ بألفاظ اللاهين العابثين، إنه يحمل  طابعَ العفافِ والوقارِ ،وكان لا يكذبُ في كلامه، ولا يغدر ُ في الوعد ،ولا يغشُ في معاملاته، لذلك لقبوه  بالأمين .

دروس مستفادة من رعي الانبياء للغنم :

1.اقتضت حكمة الله عز وجل أن لا يكون  للمبطلين من سبيل الى مثل هذه الريبة، فنشأ   رسوله بعيدا عن تربية أبيه وأمه وجده،وحتى فترة طفولته  الاولى، فقد شاء الله عز وجل ان يقضيها  في بادية بني سعد  بعيدا عن اسرته كلها ،ولما توفى جده وانتقل الى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته الى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات ،كان من تتمة هذه الدلالة أن لا يُسْلم عمه  حتى لا يُتوهم  أن لعمه مدخلا في دعوته،وأن المسألة  مسألة قبيلة واسرة وزعامة ومنصب .  وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيما ، تتولاه عناية الله وحدها بعيدا عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه ،حتى لاتميل به نفسه الى مجد المال والجاه ، وحتى لا يتأثر  بما حوله من معنى الصدارة والزعامة،فتلتبس  على الناس قداسة  النبوة  بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه أنه يصطنع  الاول ابتغاء الوصول الى الثاني .         (فقه السيرة النبوية- د.محمد سعيد رمضان البوطي ص72)

2.إن  طبيعة الحياة التي اختارها  الله للأنبياء والصالحين هي  الكدح  لاكتساب الرزق، وكان سهلا على الله أن يرزق نبيه بلا تعب ويهيئ له اسباب  الرفاهية، لكن اقتضت حكمة الله ان يكتسب النبي رزقه من عمل يده والاستغناء عما في ايدي الاخرين ، وما انهزم المسلمون في واقعنا المعاصر إلا بفساد المسئولين وانتشار الرشوة و الفوضى والخراب وتخلف المجتمع.

3.اقتضت حكمة الله ان يكون النبي أسوة للأمة والبشرية اجمع  في بناء المجتمع بالجد والاجتهاد وبناء الامة بأيادي  أبنائها  وليس وليس اعتمادا على غيرها من الأمم  تفاديا  للخضوع والانقياد للأمم الاخرى.

4.يكتسب الانبياء صفة التواضع برعايتهم للغنم  ويعتادوا  الخلوة  ويترقوا من سياستها الى سياسة الامم.

5.اذا استرعى الرجل الغنم التي هي أضعف البهائم سكن في قلبه الرأفة والسكينة فيتخلص من حدة  الطبع والظلم الغريزي .

6.التخلص من  الفخر والخيلاء مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل, والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم. وفي رواية: والسكينة والوقار في أهل الغنم.     (متفق عليه).

7.اكتساب الشجاعة، فراعي الغنم يتعرض لمخاطر  كثيرة مثل الوحوش والسباع الضارية وا للصوص وقطاع الطرق فعليه  حماية  نفسه والغنم التي يتولاها ، كما عليه اليقظة الدائمة والتصرف بحكمة .

8.اكتساب الحكمة فإن  الشجاعة يجب أن تحاط بالحكمة حتى لا تصل الى حد التهور.

حرب الفجار : (عمره 15عام)

سُميت بيوم الفجار  لِما  اُستُحل فيه من حرمات مكة  التي كانت مقدسة عند العرب في الأشهر الحرم. التي تعارفوا  على حرمة القتال فيها وكانت الحرب  بين  قريش وهوازن، وكان محمد يجمع السهام لأعمامه، واستمرت الحرب اربع سنوات ، ولم تنتهِ إلا بعد صُلح  بين قريشٍ وهوازنٍ، وتم الصلح  بينهم على أن يَعُدَ كل فريق  قتلاهُ، ثم يدفع الفريقُ الأقلُ عددا في القتلى ديةَ الزيادةِ  من الفريق الثاني .

وكان صلي الله عليه وسلم حينئذ ابن اربع عشرة أو خمس عشرة سنة وقيل: ابن عشرين ،ويرجح الاول. (السيرة النبوية  د.محمد على الصلابي ص67 )

حلف الفضول : (عمره 20عام)

انتهت حرب الفجار  وعلى إثرها كان حلف الفضول الذي شهده محمد  بن عبدالله الذي كان في سن العشرين من عمره. وسبب هذا الحلف أن رجلا من  زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل،ومنعه حقه،فاستعدى عليه الزبيدي اشراف قريش فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم ،فوقف عند الكعبة يستغيث..

فقام الزبير ابن عبدالمطلب:مالهذا مُترك. فاجتمعت بنو هاشم ، زهرة،وبنو تميم في دار  “عبدالله بن جدعان،فصنع لهم طعاما ،وتحالفوا في شهرٍحرام،وهو ذو القعدة،فتعاقدوا  يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتي يُردَ اليه حقه.   (السيرة النبوية ج 1 ص 67 د.على محمد الصلابي).

فقاموا الى العاص بن وائل  فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ماأبرموا الحلف .      ( الرحيق المختوم- المبارك فوري  ص 60)

ويعتبر هذا الحلف من مفاخر العرب،وقال عنه  النبي صلى الله عليه ” شهدت حلف المطيِبين مع عمومتي،وأنا غلام،فما أحبُ أن لي حُمْرَ النعم وإني أنكثه”  رواه احمد والبخاري     وقال : لقد شهدت في دار عبدالله بن جُدعان حلفا  ما أحبُ أنَ لي به حُمْرَ النعم ،ولو دُعيتُ به في الاسلام لأجبت”  (رواه البيهقي في السنن الكبرى، وابن هشام )

العمل والسفر بتجارة خديجة :

سمعت السيدة خديجة بنت خويلد عن محمد الامين الذين لا يكذب ولا يغش ولا يغدر وسمو اخلاقه ولقبه  الامين.

وكانت خديجة بنت خويلد تاجرة ذات شرف ومال ،تستأجر  الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشئ تجعله لهم،وكانت قريش قوما تجاراافلما بلغها عن رسول الله مابلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم اخلاقه، بعثت اليه،وعرضت عليه ان يخرج في مالها ال الشام تاجرا ،وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة. فقبله منها رسول الله صلى الله عليه فخرج في مالها ومعه غلامها ميسرة حتى قدما الشام ،فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرةٍ قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب الى ميسرة وقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة :هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب :  ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي .

وباع رسول الله صلى عليه وسلم سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا الى مكة..       (تاريخ الامم والملوك ص304)

وحقق محمد ارباح مضاعفة لخديجة التي اعجبت بهذه النتائج بالإضافة الى ما أخبرها به غلامها ميسرة عما رآه من بركات محمد ونبل اخلاقه. .وكانت خديجة  امرأة  شريفة  وحازمة ولبيبة ورغبت في الزواج منه صلى الله عليه وسلم، وعرضت نفسها  عليه زوجة عن طريق صديقتها (نفيسة بنت منيَة)فوافق النبي صلى الله عليه وسلم ،وأخبر أعمامه ،  فخرج معه حمزة بن عبدالمطلب فخطبها إليه وتزوجها، فولدت له ولده كلهم إلا ابراهيم (زينب ،ورقية،وأم كلثوم ، وفاطمة، والقاسم- وبه كان يُكنى –  والطاهر والطيب .  فأما القاسم  والطاهر والطيب ، فهلكوا  في الجاهلية، وأما  بناته فكلهن أدركن  الاسلام فأسلمن، وهاجرن معه.

بناء الكعبة : (عمرة 35عام)

جرف مكة سيل العرم قبل بعثة النبي بخمس سنوات أي عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ،حيث زاد من تصدع جدران الكعبة التي أوشكت على الانهيار ،ولم يكن امام قريش سوى إعادة تشييد الكعبة المقدسة التي كانت اول بيت بُني على اسم الله بناه ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام (وإذ  يرفع ابراهيمُ القواعدَمن البيتِ واسماعيل،ربنا تقبلْ منا إنك أنت السميعُ العليمُ) البقرة127

واتفقوا على ألا يدخل بنيانها  أي مال حرام،قال عائذ بن عمران المخزومي:لا تُدخِلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا،لايدخل

فيها مهر بغي،ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس.     (سيرة ابن هشام ص194)

وقد شارك الرسول  وعمه العباس في بناء الكعبة،وكانا  ينقلان الحجارة  ، فقال العباس للنبي:اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ،فخرَ  الى الارض،وطمحت عيناه الى السماء ثم أفاق ، فقال : ” إزاري !إزاري” فشد عليه ازاره ”      (رواه البخاري ومسلم.)

وتولى البِناءَ بَنَاء رومي اسمه (باقوم)،ولما بلغ البنيان موضع الحجر الاسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه،واستمر النزاع أربع ليال أو خمساً،واشتد حتى كاد يتحول الى حرب ضروس في ارض الحرم،إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يُحَكِموا  فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه،وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فلما  رأوه  هتفوا: هذا الأمين،رضيناه ،هذا محمد. فلما انتهى اليهم،وأخبروه الخبر طلب رداء ،فوضع الحجر وسطه وطلب من الرؤساء  المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء ،وأمرهم أن يرفعوه حتى أذا أوصلوه الى موضعه أخذه بيده.

مشكلة الحجر الاسود :، فوضعه في مكانه ، وكان هذا  حلا حصيفا رضي به القوم.  ( الرحيق المختوم- المباركفوري  ص 61.)

دروس مستفادة من بناء الكعبة:

1.أهمية الكعبة،ومدى قداستها عند قريش،وقد بناها ابراهيم أبو الانبياء عليه السلام بأمر من الله  لتكون أول بيت لعبادة الله.

2.اعادة بناء الكعبة اكثر من مرة (أربع مرات)أولها عندما بناها ابراهيم عليه السلام،والثانية :التي بنتها قريش قبل البعثة واشترك في بناءها رسول الله عليه وسلم، الثالثة :في زمن يزيد بن معاوية عندما حاصر  عبدالله بن الزبير في الكعبة وضربه الحُصين السُكوني حتى يستسلم، الرابعة :في زمن عبدالملك بن مروان  بعد مقتل عبدالله بن الزبير .

3.توفيق الله للنبي في تحكيمه بين القبائل لفض المنازعة التي كانت ستؤدي الى اراقة الدماء وحرب ضروس في الحرم.

4.إظهار المكانة المتميزة للنبي وثقة زعماء قريش في أمانته وعدله وحكمته وارتضاءهم لحكمه.

5.حفظ الله لنبيه في شبيبته عن اقذار الجاهلية عندما  رفع ازاره على رقبته لرفع الحجارة،فخر الى الارض ثم أفاق يقول:

” إزاري!إزاري” ! فشد له إزاره، فما  رُئيَ عُرياناً صلى الله عليه وسلم       (رواه البخاري ومسلم)

انتهت الحلقة السادسة ونلتقي معكم  بإذن الله في الحلقة السابعة  يوم الجمعة القادم  في ظلال النبوة.

د.محمد أحمد النجار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.