الصراط المستقيم

السيرة النبوية (7) ..حياة رغيدة وزوجة حبيبة وصمت طويل

بقلم : الدكتور محمد النجارالسيرة النبوية (7) ..حياة رغيدة وزوجة حبيبة وصمت طويل 2

استعرضنا في الحلقة السادسة عودة محمد الغلام مع عمه الى مكة واشتغاله بالرعي وحكمة الله في ذلك ثم رحلته بتجارة خديحة الى الشام واعجاب خديجة بأمانته واخلاقه وعرضها نفسها للزواج منه ،كما استعرضنا اشتراكه في بناء الكعبة وحل مشكلة القبائل وحضوره حرب الفجار ثم حلف الفضول الذي قال عنه لو دعيت لمثله في الاسلام لأجبت.   ونبدأ  الآن في الحلقة السابعة  بإذن الله :  عنوان الحلقة ( حياة رغيدة وزوجة حبيبة مع صمت طويل)

حياة رغيدة مع زوجة حبيبة لكن :

وفرت طبيعة الحياة التي عاشها محمد مزايا كثيرة لا تتوفر لغيره، منها التأمل والتفكير في حياة الناس وما آلت اليه من فساد  وانحطاط ،فمنهم الهندوس الذين يعبدون البقر، والمجوس الذين يعبدون النار ،والبوذيون الذين يعبدون بوذ ا، ومنهم الذين يعبدون التماثيل والصور ،ومنهم يعبدون الطبيعة  من شمس وقمر ونجوم وغيرها .

كما أن اهل الكتاب ابتعدوا كثيرا عن توحيدهم  الله وعبادته، فاليهود قالوا : (عُزيرٌ ابن الله) والنصارى للاسف قلدوهم فقالوا: المسيحُ ابن الله. واشتد الخلاف بين اليهود والنصارى وتفرق كلُ دين  الى مذاهب واحزاب ، واحتدم الخلافُ والجدلُ والتناقضُ.

أما العرب زادت جهالتهم واشركوا بالله ،فعبدوا الاصنام للتقرب بها الى الله حتى ملأوا بها البيت الحرام الذي بناه ابراهيمُ لعبادة الله وحده ، وبلغ عدد الاصنام (360) صنما ، لها ثلاثُ رؤساءِ ) : هُبَلُ واللاتُ والعُزَى).    وارتضوا في استخارتها ( الأزلامَ) لتكون حكما للخير والشرِ، وقد رأينا كيف ان عبدالمطلب استخدم الاقداحَ ( الأزلامَ) في فداء ابنه عبدالله (والد حفيده محمد).

وكيف وصل حال العرب من الخرافات وحب الانتقام ، وقيام الحروب بينهم سنوات طويلة تُذهق فيها الارواح. كما انتشر ظلم الضعيف الذي لا يستند الى قوة قبيلة أو سلطة ، وتعاملوا بالربا ولعب الميسر وتعاطوا الخمر ، وساد ظلم المرأة التي كانت  في نظرهم نوعا من المتاع و لعبة في يد ابيها واخوتها وزوجها ،بالإضافة الى دفن البنات الصغيرات في التراب بعد ولادتهن دون ذنب وهن أحياء .

وعم الفساد في الارض نتيجة ما يعبده الناس من عقائد مشوهة ابعدتهم عن التفكير في يوم بعث أو حساب في الدار الاخرة ،بل زعموا أن هذا مستحيلا.

في ظل تلك  الظروف كان محمد الشاب كثير التأمل والتفكير  ما يعيشه من  حياة رغيدة في هدوء وطمأنينة مع  زوجة طيبة بينهما الحب والمودة لا ينقصهما أية عناصر لحياة مطمئنة سعيدة.

ومع ذلك كان محمد الشاب يبدو قلق المُحيا لا تهمه سعادة الدنيا . ولو حاولنا تفسير مظهر ذلك التفكير العميق مع كثرة الصمت ربما  ندعي ان سببه كان يرجع  لوفاة طفلين ماتا له هما ( القاسمُ ، والطاهر عبدالله). لكن موت الابنا ء الاطفال لا يطبع الحزن مددا طويلة ،فكثير مايموت اطفال ويحزن الاب والام قليلا من الوقت ثم تُنْسِيهما الايام ويعودا لحياتهما .

فما سر ذلك الصمت الطويل والتفكير العميق ؟؟

يتمثل ذلك  القلق المستمر والصمت الطويل في التفكير في حال الناس وما وصلوا اليه من فساد قلوب وتلوث عقول وعقائد فاسدة ويفكر في أين المخرج من تلك الضلالات والانحرافات ؟

غار حراء والتفكير من أعلى :

بدأت مرحلة جديدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم  عند اقتراب عمره من الاربعين، بدأ يميل أكثر الى العزلة والاختلاء في غار حراء ليتأمل في ملكوت الله ويناجي  ربه  أياما طويلة، فكأنه وَجَه روحَهُ  ونفسه إلى أعلى ليفكر في أمر  العباد مع رب السماء .

تقول السيدة عائشة فيما نقله البخاري : أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من  الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِبَ إليه الخلاءُ ، فكان يخلو بغار حراء ، فَيَتَحَنثُ – وهو التعبد- الليالي ذوات العددِ، قبل أن ينزعَ الى أهله ، ويتزود ، ثم  يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها ،حتى جاءه الحقُ ،وهو في غار حراءِ ، فجاءه المَلكُ ،فقال : اقرأ ، قال: ما أنا بقارئ” . قال : ” فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهدَ ، ثم ارسلني ،فقال : اقرأ ،قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ من الجهدَ ،ثم ارسلني ،فقال :اقرأ ،فقلت : ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم ارسلني ، فقال :

” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” العلق

وفي أعلى الجبل وسط ذلك الغار قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآيات وقد بلغ  الخوفُ منه مبلغَه  وسط الهدوءِ والسكون والصمت، وقلب محمد يرتجف و هو يردد آياتٌ تتنزل ، فيردد وراء  جبريل..

ويبتعد صاحب الصوت عن الغار ..

ويخرج محمدٌ هاربا من الغار يركض في وسط الجبل الرهيب مع السكون المخيف، فيسمع صوتا  يقول له :

” يا محمد ..أنت رسولُ الله.. وأنا جبريل ” قال : فرفعت رأسي الى السماء  انظرُ ، فإذا جبريلُ في صورة رجلٍ صافِ قدَميه في أفق السماء يقول : يا محمد ، أنت رسولُ الله وأنا جبريل.

قال : فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر ،وجعلت  أصرف  وجهي عنه في آفاق السماء. قال: فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيتُه كذلك ، فما زلتُ واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثتْ خديجةُ رسلها في طلبي ، فبلغوا  أعلى مكة ورجعوا اليها وأنا واقف مكاني ذلك ، ثم انصرف عني.     (سيرة ابن هشام ص237)

قلق خديجة على محمد فترسل عمالها يتفقدونه:

رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه يرتجف، فدخل على زوجته خديجة رضى الله عنها، فقال : زملوني ..زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقالت له : ياأبا القاسم ، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رُسلى في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي.

فأخبرها الخبر :لقد خشيت على نفسي! فقالت كلماتها التي توزن بأغلى من الذهب :

“كلا .. والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتُكسب المعدوم ،وتعين على نوائب الحق”

انتهت الحلقة السابعة  ونلتقي معكم  بإذن الله في الحلقة الثامنة  يوم الجمعة القادم  في ظلال النبوة.

وكل وانتم بخير في عيد الاضحى المبارك 1438هـ

السيرة النبوية (7) ..حياة رغيدة وزوجة حبيبة وصمت طويل 3
د.محمد أحمد النجار
اول سبتمبر 2017
الموافق10 ذوالحجة 1438هــ

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.