السيرة النبوية (8)..إرتجاف وخوف النبي من مشهد جبريل في السماء
بقلم : الدكتور محمد النجار
استعرضنا في الحلقة السابعة كثرة صمت النبي والاختلاء بنفسه في غار حراء رغم الحياة الهانئة مع زوجته خديجة لكن كان يشغل فكره الواقع المرير الذي تعيشه العرب والبشرية من شرك بالله وطغيان المادية وظلم الاقوياء للضعفاء،وكان يبحث عن المخرج لتلك الجاهلية العمياء،فجاءه الوحي من السماء كي يكون فرجا لتلك الجاهلية.
ونبدأ الآن في الحلقة الثامنة بإذن الله : عنوان الحلقة (ارتجاف وخوف النبي من مشهد جبريل في السماء)
حوار خديجة للنبي وهو خائف مرتجف :
وليت نساء الامة يتعلمن الذوق الرفيع والرومانسية القلبية الاخلاقية من خطاب خديجة لزوجها محمد بعد عودته من غار حراء مرعوبا مرتجفا من هول مارأي في الغار ومفاجأة جبريل له قائلا : اقرأ حسب ماشرحناه تفصيليا في الحلقة (7)، ومااصاب النبي من خوف ورعب جعله يفزع في الغار فيتركه وينطلق مسرعا الى الجبل،ثم ذهوله وجبريل عليه السلام يظهر له وسط الجبل في صورته الحقيقة التي تمتد الى السماء ، يناديه ” يا محمد ..أنت رسولُ الله.. وأنا جبريل “، ورجع من الجبل وقلبه يرتجف، فدخل على زوجته خديجة رضى الله عنها، فقال : زملوني ..زملوني ( أي غطوني)، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
فقالت له خديجة : يا أبا القاسم ، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رُسلى في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي.
فأخبرها الخبر :لقد خشيت على نفسي! وتتأمل خديجة قوله وكانت امرأة عاقلة وكانت أعرف الناس بأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، ما يؤكد من سيرته ان الرجل المؤيد من ربه والموفق من خالقه، وأن من كانت هذه اخلاقه لا يُخشى عليه من الشيطان،.
فقالت في ثقة المؤمنة وبكلماتها التي توزن بأغلى من الذهب :
” أبشر يا ابن العم ، كلا .. واللهِ ما يُخْزيكَ اللهُ أبدا ، إنكَ لتصلُ الرحمَ ، وتحمُل الكلَ ، وتُكسِبُ المعدومَ،وتُقري الضيفَ ،وتُعينُ على نوائبِ الحقِ ” البخاري ومسلم – (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ص 22 الجزء الأول)
وقد استقبلت خديجة الخبر بقوة قلبها وثقتها في زوجها، فلم تفزع من سماع الخبر بل استقبلته بهدوء وسكينة، وكانت متأكدة من أن مَنْ كان رصيده من الاخلاق الانسانية مثل ما رأته في زوجها في كافة المواقف منذ أن عرفته في تجارتها وهو شاب في عمر الخامسة والعشرين وما شهد به غلامها ميسرة لمحمد اثناء سفره معه الى الشام وصدق تعاملاته ، هذا كله يشهد له ان رصيده الانساني لا يُدانيه رصيد وهو الأمر الذي لا يُخزي الله صاحبه ، بل يرفعه الى ملكوت السماء .. واستنتجت خديجة بأن الصفات الجمالية الكمالية التي تجمعت في زوجها والاخلاق الفطرية التي فطره الله عليها تجعله مع الله فلا يخزيه أبدا .
خديجة تستشير ورقة بن نوفل الذي تنصر في الجاهلية :
لم تكتفِ خديجة بطمأنتها لمحمد بأن الله لن يخزيه لمكارم الاخلاق فيه ، بل انطلقت الى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل ، وكان امرءاً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتبُ الكتاب العبراني ، فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عَمِيَ ، وكان ينتظر ظهور نبي اخر الزمان، لِما عرفه من علماء اهل الكتاب من اهل التوراة والانجيل من اقتراب زمانه، واقتراب مبعثه.
فأخبرته بما أخبرها به رسول الله عليه ، أنه رأى وسمع.
فقال ورقةُ بن نوفل: قُدوس قُدوس ، والذي نفسُ ورقة بيده لئن كنتِ صدقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموسُ الاكبر ُ الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبيُ هذه الامة ، فقولي له : فليثبُتْ.
فرجعت خديجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل ، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حوارَه وانصرف، صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقةُ بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال : يابن أخي أخبرني بما رأيتَ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقةُ :والذي نفسي بيده ، انك لنبي هذه الامة ، ولقد جاءك الناموسُ الاكبر الذي جاء به موسى، وَلتُكَذبنه ولتُؤذينه ولتُخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركتُ ذلك اليومَ لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه ،فقبَل يافوخه(أي وسط رأسه) ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى منزله. (سيرة ابن هشام ص 238).
وفي رواية ان ورقة بن قال له: هذا الناموس الأكبر( أي جبريل أو الوحي)الذي نزل على موسى ياليتني فيها جذا (شابا قويا) ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟
قال ورقة: نعم،لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلا عودي،وإن يدركني يومك انصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفى وفتر الوحي. فتح الباري شرح صحيح البخاري الجزء الاول ص 22 – (فقه السيرة – د.محمد سعيد البوطي ص96).
وكان لحديث ورقة ابن نوفل أثر كبير في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه.
أشعار ورقة بن نوفل عن محمد وخديجة :
ومن أشعار ورقة ابن نوفل التي تدل على انتظاره لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم التي وردت في السيرة النبوية لابن هشام يرحمه الله نأخذ بعضها في قوله :
لجَجْتُ وكنتُ في الذكرى لَجُوجا لِهَمٍ طالما بَعثَ النشــــيجا
ووصفٍ من خديجةَ بعدَ وصفٍ فقد طال انتظاري يا خديجا
بِبِطن المَكَتيْنِ لى رجــــــــــــــائي حديثَكِ أن أرى منهُ خروجا
بما خبَرتِنا من قـــــــولِ قسِ من الرهبانِ أكرهُ أن يَعُوجا
بأن محمدا سيسُــود فينا ويَخْصِمُ منْ يكــــونُ له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياءُ نــــور يقيم به البرية ان تموجا
فيلقى من يحاربه خســــارا ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتني إذا ماكان ذاكُمُ شَهِدت فكنتُ أوَلَهم وُلوجا
( السيرة النبوية – د . علي محمد الصلابي نقلا عن سيرة ابن هشام ص 191)
لقد آمن ورقة بن نوفل بمحمد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وقال عنه (( لا تسبُوا ورقة ، فإني رأيت له جنةً ، أو جنتين)).
صححه الحاكم(2/609)والبزار(2750و2751) بإسناده عن عائشة رضي الله عنها ، ووافقه الذهبي ، وذكره الألباني في “الصحيحة” (405) .
هل يُعد ورقة ابن نوفل من الصحابة :
اختلف علما ء السيرة فيما اذا كان ورقة بن نوفل من الصحابة او من غيرهم ، فمن العلماء من ذكره في الصحابة كالطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم – كما في “الإصابة” (6 /607)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : مجموع الفتاوي:
” الظاهر لي والله أعلم أنه يعد صحابيا ، فيترضى عنه ” انتهى .
وسئل الشيخ صالح الفوزان :
” ما هو الأولى بحق ورقة بن نوفل إذا ذكر هل يترضى عليه ؟
فأجاب حفظه الله :
” بلا شك ، نعم هو صحابي يُترضى عنه ” انتهى .
وعلى ذلك القول : يكون ورقة بن نوفل هو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة ، ومن الرجال ورقة بن نوفل ” .
انتهى .”مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين” (8 /613).
ومن العلماء من قال : إنه ليس صحابيا ، ولكنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ومات في فترة الوحي .
قال ابن كثير رحمه الله :
” وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ، ومات في الفترة رضي الله عنه ” انتهى من “البداية والنهاية” (3 /25)
امتحان خديجة للوحي :
لم تترك الزوجة المخلصة المباركة زوجها في حيرة وارتجاف من هول ما رأي ، ولم تكتفِ برأي ورقة بن نوفل بل قررت ان تمتحن بنفسها ذلك الذي رآه زوجها وتتحقق من كونه ملاكا أو شيطانا .
يروى ابن اسحاق :عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم :أي ابنَ عم ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال : نعم. قالت : فإذا جاءك فأخبرني به! فجاءه جبريلُ عليه السلام كما كان يصنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا خديجة هذا جبريل قد جاءني ! قالت : قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول قال الله فجلس عليها ، قالت : هل تراه؟ قال نعم ! قالت : فتحول فاجلس على فخذي اليمني، هل تراه؟ قال : نعم ! قالت فتحول فاجلس في حجري ، قالت : فتحول فجلس في حجرها ، قالت هل تراه؟ قال: نعم ! قال : فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت له : هل تراه؟ قال : لا . قالت : يابن عم ، اثبت وأبشر ، فوالله إنه لَمَلَكٌ وما هذا بشيطان. (سيرة ابن هشام239)
عكس توقعات النبي :
لقد هزت كلمات ورقة بن نوفل النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يكاد يتصور أن يؤذيه قومه وهو ابنهم بل لا يتصور كيف سيُخرجه قومُه من مكةَ وهو من اهلها . وكأن المستقبل يتراءى للنبي بما فيه معاني القسوة والألم خاصة حينما يفقد الانسان وطنه قسرا بلا جريمة اقترفها أو جناية ارتكبها .
فهل هذا جزاء كل من يصلح قومه أن يكذبنه ويؤذونه ويطاردونه في أرضه ووطنه أو يقتلونه؟
امام كل هذه المعاني التي تدور في خلد محمد صلى الله عليه وسلم كان يتوقع معاودة جبريل بسرعة مؤنسا له ،ومؤانسة له من الله مثل التي كان يَنْعم بها موسى من قبل خاصة بعد أن وصله خبر موت ورقة بن نوفلٍ، وهو الشخص الذي أكد نبوته. فكانت الحاجة الى الناموس الاكبر “جبريل” ضرورية لتسد فراغ موت ورقةَ. وازدادت توقعات محمد بنزول جبريل ثانية ،وازداد شغفه بنزول جبريل وكأنه نسي هولَ مفاجأته له في الغار وما أصابه من خوف ورعب، ونسي موقفه متجمدا في مكانه لا يستطيع ان يتحرك في الجبل عندما فر من الغار فوجد جبريل ممتدا بين السماء والارض ينتظره و يناديه” يا محمد انت رسول الله ”
ورغم هول تلك الذكرى ، كان محمد ينتظر عودة جبريل ليوصله برب السماء .
متى تعود يا جبريل فقد انقطع الوحي؟
انقطع جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم رغم شدة شوقه لرؤيته ورغم شدة حاجته اليه .. عكس ما كان يتوقعه. واصبحت حيرة محمد بين تساؤلات عديدة لعله يدرك لها تفسيرا لهذا الانقطاع. كان سابقا يسأل ورقة بن نوفل عما وقع له ، وقد مات ورقة ! فمن يسأل الان حتى يجيبه على حيرته؟ فهل تعرف خديجة سببا لهذا الانقطاع ؟ بالتأكيد لا تعرف ، لأنها كانت تسأل ابن عمها ورقة .. وقد مات . لقد انقطع اتصال الارض بالسماء مما ازداد معه حزن محمد صلى الله ليه وسلم لدرجة انه ظن ان ما رآه في المرة الاولى ليس جبريل أو سمع شيئا لكنه ليس الوحي.
مرت الساعات بطيئة كأنها شهور والأسابيع كأنها سنوات من صعوبة الانتظار ، وبدأ اليأس يتسرب الى نفس محمد صلى الله عليه وسلم ، وكاد أن يحطم قلبه ويتحول الضياء حوله الى ظلام.
انتهت الحلقة الثامنة ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة التاسعة يوم الجمعة القادم في ظلال النبوة.
د.محمد أحمد النجار
الجمعة 8 سبتمبر 2017
الموافق18ذوالحجة 1438هـ