السيرة النبوية (9)..عودة الوحي بعد إنقطاعه والدروس المستفادة
بقلم : الدكتور محمد النجار
استعرضنا في الحلقة الثامنة كيف استقبلت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عائدا من الجبل خائفا مرتجفا من هول مارأى في الغار ومشهد جبريل في الجبل يملأ السماء ،وطمأنتها له بكلماتها البلسم بأنه صاحب المروءة والنجدة للملهوفين والضفعاء والمساكين وأن الله لا يضر ولا يضيع اجر المحسنين ، ثم استشارتها ورقة بن نوفل الذي اخبرها بأنه نبي هذه الامة، ثم انقطع الوحي عن النبي فحزن حزنا شديدا خشية ان يكون شدة خوفه هي السبب أو يكون ما رآه ليس مَلَكَاً من الله،وانما شيطان.
ونبدأ الآن في الحلقة التاسعة بإذن الله : عنوان الحلقة (عودة الوحي بعد انقطاعه والدروس المستفادة)
امل اللقاء يدب في قلب النبي بعودة جبريل من جديد:
رغم شدة معاناة النبي عند نزول الوحي في المرة الاولى ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا عند انقطاع الوحي، بل اصبح يشتاق الى لقاءه من جديد، فخرج الى الجبل لعله يلقاه من جديد،ويتكرر خروجه دون أن ينزل عليه الوحي،ويعود الى بيته ويشكو لخديجة حزنه وهمه فتقول له زوجته الحبيبة: لا تخف يابن عمِ،كلا والله لا يخزيك أبدا .
وبينما هو يمشي فإذا جبريل عليه السلام يفاجأه جالساً على كرسي بين السماء والأرض فارتعد منه النبي وهوى على الارض ثم قام مسرعا الى البيت، فتستقبله خديجة فترى ما أصابه من خوف ورعب كأنها مستبشرة بعودة الوحي اليه ، كأنه يشكو من نوبة حمى .. وهو يقول : دثروني .. دثروني .. أي ألقوا فوقي غطاء كثيفا أتقي به ما ألم بي من رجفة وارتعاد.
ورد عن جابر بن عبدالله الانصاري قال- وهو يحدثُ عن فترة الوحي أي انقطاع الوحي – فقال النبي في حديثه :
“بينما أنا امشي إذ سمعتُ صوتا من السماء فرفعتُ بصري فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسيٍ بين السماء والارض فَرُعبتُ منه، فرجعتُ فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى:
” يا أيها المدثر، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر” سورة المدثر.
فَحَمي الوحيُ وتتابع) (فتح البار ي- ابن حجر العسقلاني ص 27- 28 )
ونوضح معاني كلمات الحديث:
ورعبت منه: أي فزعت ، دل على بقية بقيت معه من الفزع الاول ثم زالت بالتدريج
وكلمة : زملوني زملوني، وردت في راوية مرة واحدة، وفي رواية وردت كلمة دثروني.
يا أيها المدثر قم فأنذر : أي حَذِرْ من العذاب من لم يؤمن بك. وربك فكبر: أي عَظِم
وثيابك فطهر: أي من النجاسة، وقيل الثياب بمعنى النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص.
والرجز فاهجر : الرجز هنا الاوثان ،والرجز في اللغة أي العذاب وهنا لأن عبادة الاوثان سبب للعذاب
وحَمِيَ الوحي : بمعنى تتابع وجاء كثيرا بعد انقطاع.
وصدق احساس خديجة بأن الصفات الجمالية الكمالية التي تجمعت في زوجها والاخلاق الفطرية التي فطره الله عليها تجعله مع الله فلا يخزيه أبدا ، وحمدت الله الذي أعاد الوحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب فتور الوحي:
أن نزول الوحي على البشر أمرٌ صعب ، وفوق طاقة البشر العاديين،وبالرغم من الله قد هيأ الرسول لاستقبال الوحي وأمدة بالقوة الكافية للتحمل إلا ان النبي كان يعاني من نزول جبريل عليه حيث كان وجهه يتغير لونُه، والعرق يتصبب منه ولو في شدة البرد، وكانت رؤية النبي لجبريل اول مرة قاسية وعنيفة وأثرت في نفسه لهول المنظر، وكان من رحمة الله برسوله أن يتركه فترة كافية يسترد فيها شتات نفسه حتى يكون مستعدا وبشوق كبير لرؤية الوحي وتبعاته من جديد.
مدة فترة الوحي :
تحدث علماء السيرة قديما وحديثا عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: فتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان ، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع وليحصل له التشوف( أي التطلع) الى العود .
وقد وردت روايات على ان فترة الوحي كانت ثلاث سنوات وبعضها سنتين ونصف ..
والحقيقة ان هذه المدة سواء كانت ثلاث سنوات او سنتين ونصف فإنها مدة طويلة لا تتناسب مع المشقة التي كان يعانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نتيجة فترة الوحي وانقطاع جبريل عنه وشدة حزنه حتى تروي كتب السيرة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يرتفع الى شواهق الجبال ليتردى من أعلاها ، وكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى بنفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. (صحيح البخاري –باب مابُدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الورحي الرؤيا الصالحة 2/10340)
وقد وقع في تاريخ احمد بن حنبل عن الشعبي ان مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين ،وبه جزم ابن اسحاق.
وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة اشهر. (ص27 فتح الباري – ابن حجر العسقلاني)
وقد ورد عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما. (فتح الباري ص 27- ابن حجر العسقلاني)
وهذا مانميل اليه أن فترة الوحي لم تكن سنوات وانما فترة لاتتعدى ستة اشهر .
دروس مستفادة من فتور وانقطاع الوحي:
ان حالة الرعب والخوف التي اصابت محمد صلى الله عليه وسلم عندما فوجئ بجبريل عليه السلام امامه رؤيا العين ، ثم مشقة ضم جبريل له بشدة وهو يقول له : اقرا ثم يرسله ، ثلاث مرات حتى فزع النبي وخرج هاربا من الغار الى الجبل فيُفاجأ بجبريل ينتظره في الجبل يملأ بين السماء والارض،فيزداد فزعا و يهوى الى الارض من شدة الخوف فيناديه جبريل بصوت عظيم : يا محمد انت رسول الله وانا جبريل ، فينصرف الى بيته مفزوعا يقول لزوجته : زملوني زملوني.. من شدة الحرار ة التي اصابته ،فإن هذا يؤكد ان الذي رآه كان يقظة حقيقية و لم يكن رؤيا منامية ، كما ان ذهاب خديجة الى ورقة بن نوفل تطرح عليه مارآه محمد في الغار ثم في الجبل ،فيؤكد لها ان هذا الناموس الذي انزله الله على موسى، كل هذا يؤكد ان مارآه محمد صلى الله عليه وسلم كان مَلَكا في السماء ارسله الله بالوحي الى محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن مناما أو خيالا . ثم نطرح سؤالا: ألم يكن الله قادرا على ان يأتي بالوحي الى محمد صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب دون تلك المشاق والمخاوف والمتاعب التي تكبدها ؟ لكن اقتضت حكمة الله ان يرسل جبريل بالوحي درءا لما قد يفتريه اعداء هذه الرسالة الخاتمة التي ستكون الميثاق والدستور الإلهي للبشرية الى يوم الدين،وما سيدعيه اعداء هذا الرسول الخاتم المرسل الى البشرية بكتاب الله وكلماته النهائية الى الانسانية حتى يوم القيامة، ان هذا كله يدحض كل ادعاءات الكفار والمشركين على مر العصور واختلاف الدهور ، ونستخلص منه دروسا هامة نوجزها فيما يلي :
لو كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عنده ، فما حاجته صلى الله عليه وسلم يتألم لعدم نزول الوحي اليه ،ويخرج الى الجبل الذي نزل عليه فيه الوحي منتظرا جبريل لدرجة انه كان يود ان يلقى بنفسه من قمة الجبل لعدم نزول الوحي اليه .
ان حديث نزول الوحي هو حقيقة يتم البناء عليها في ان كل ماورد من النبي في العقيدة والمعاملات والتشريعات انما هي وحي من الله وليس اجتهادا شخصيا أو الهاما نفسيا ..
يتعين على كل مسلم آمن بالوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ان يلتزم بما جاء به الوحي كاملا دون اختيار جزئي أو انتقائي سواء كان في العقيدة والمعاملات وكذلك كامل التشريعات .
اظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلى اللهعليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعد البعثة،وبيان ان شيئا من اركان العقيدة الاسلامية أو التشريع الاسلامي لم يُطبخ في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم سابقا ولم يتصور الدعوة اليه سابقا.(فقه السيرة – البوطي ص99).
كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ، لايقرأ ولا يكتب ثم يأتي بهذا القرآن المعجز نحويا ولغويا وفيه من القصص التاريخية مثل قصة موسى وفرعون وقصة يوسف عليه السلام ، وقصة المسيح وأمه مريم..
لم يكن النبي يجيب على كل ما يوجه اليه من اسألة بل كان ينتظر الوحي اكثر من يوم لموافاته بالإجابة الصحيحة المُنزلة اليه من الله ، بل كانت تتنزل عليه اجابات اسئلة فيها اللوم والعتاب وربما تكون احيانا عكس اجتهاده الشخصي.
دور خديجة في الدعوة مع النبي:
لقد وفق الله نبيه صلى الله عليه وسلم في اختياره السيدة خديجة بنت خويلد زوجة له تتمتع بمكانة رفيعة في قومها تقوم على الاخلاق العالية من الرحمة والحكمة والقدرة على تحليل المواقف واستخراج النتائج مثل موقفها للتحقق من أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم مَلَك أو شيطان . كما كانت تتمتع بشخصية فياضة في حبها للنبي والتخفيف عنه في كل المواقف الصعبة مثل احتضانها له حينما رجع يرتعب من رؤيته جبريل في غار حراء ثم وسط الجبل وهو يناديه (يا محمد انت رسول الله ..)، وقدرتها على التعامل مع الاخرين ومشاورتهم في المواقف التي تتطلب اصحاب الرأي والحكمة مثلما ذهبت الى ورقة ابن نوفل تخبره عما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وطمأنته لها بأن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى وان محمدا هو النبي المنتظر .
كل هذه المواقف تبين مدى اهمية الزوجة العاقلة الحكيمة التي تعي دورها في الاسرة ودعمها لزوجها في حياته العلمية والعملية فتزيل كافة العقبات وكل جوانب الخوف.
لقد عوضت خديجة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقده لأمه التي ماتت وهو ابن ست سنين وحنان ابيه الذي توفى قبل ان يولد .
المرأة التي تأسر الرجل هي المرأة التي تجمع ثلاث مواصفات ” عقل وفكر وحكمة ” القادرة على فهم نفسية زوجها وتقدم له مايحتاج من دعم عاطفي وروحي يتألق به في السماء .. خاصة زوجة الداعية الى الله الذي يحتاج الى بيت هادئ يستطيع ان يفكر فيه في قضايا الامة وتوفير الوقت الكاف للاطلاع والتحضير لدروسه ومحاضراته وان تتحمل معه بصبر ما قد يتعرض له من مشاق ومضايقات تحت شعار ” كله يهون في سبيل مرضات الله “..
انتهت الحلقة التاسعة ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة العاشرة يوم الجمعة القادم في ظلال النبوة.