السيرة (40) أشد يوم فى حياة النبى : وحواره مع عداس النصراني
18 أغسطس، 2018
0
بقلم .د/ محمد النجار
ذهب النبي الى الطائف ليفتح بابا جديدا و مكانا آخر لدعوته بعد وفاة عمه و زوجته ، وزيادة أذى كفار مكة له ،فذهب ماشيا على قدميه متخفيا من كفار مكة ، راجيا القبول في الطائف لكنهم لم يسمعوا له ، وسلطوا عليه السفهاء والصبيان ، فوقفوا له صفين يسبونه ، ويصيحون به ، ويرجمونه بالحجارة ، وكلما اقعدته ضربات الحجارة وقع على الارض فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه حتى اختضبت نعلاه بالدماء .. ويحاوره عداس النصراني، فينكب عليه باكيا ويُقبل رأسه ويديَه وقدميَه ، ثم يدعو النبي دعاء المكروب”اللهم اني اشكو اليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس”، ثم ينزل ملك جبريل ومعه ملك الجبال.. اترككم مع التفاصيل أوغلت مكة في الكفر,والأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت تستمرئ تلويث الساجدين بالأقذار مثلما فعلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل وتتمايل – سخرية وضحكاً-من منظر دم ونجاسة أحشاء الجمل، وهي تسيل على كتفه وجسده الشريف ، وكأن الخير قد ذهب من تلك القلوب. والبنت -في المجتمع العربي- تعيش في كنف أبيها، وتفخر بقوته، وتأنس بحمايته. وممّا يحز في قلب الرجل أن يرى نفسه في وضع تدفع عنه ابنته، وتشعر بالعجز وقلة الناصر، وقد كظم محمد صلَّى الله عليه وسلم) على ألمه، وتحمل في ذات الله ما لقي إلا أنه أخذ يفكر في التوجه برسالته إلى قرية أخرى، علها تكون أحسن قبولاً وأقرب استجابة ، وقرر ان يبحث عن مكان جديد لنشر دعوته ، واستقر في ذهنه ان يكون المكان الجديد هو ثقيف في الطائف . فاستصحب معه زيد بن حارثة وولى وجهه شطر “ثقيف” يلتمس نصرتها . لماذا اختار النبي الطائف لطلب النصرة وفتح باب جديد للدعوة؟ امام عناد كفار مكة وعدم استجابتهم للدعوة وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعوته ، قرر النبي أن ينتقل بدعوته الى الطائف للأسباب التالية : ١-الطائف منشأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت رضاعته في بادية بني سعد التي تعد جزءا من بادية الطائف ، وأراد النبي ان يكون منشأ رضاعته مهداً جديدا لنشر الاسلام ودعوة الله . ٢-يعتبر اهل الطائف وثقيف أخوال الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ، فهم من أقرب القبائل رَحِمَاً إليه بعد قريش ، ولعل بعض النفوس التي نشأت معه تستجيب الى دعوته وتجلب كثير من الناس الى دائرة الاسلام . ٣-الطائف اقرب المناطق الى مكة ، وتلي مكة في الأهمية من ناحية اتساع العمران ، ورفاهية السكان ، يقول الله تعالى ((وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجل من القريتين عظيمٍ)) سورة الزخرف 31. القريتان : مكة والطائف ٤-كانت الطائف مستقر عبادة ((اللات)) وهو صنم يُعبد ، ويُحج إليه ، وكانت تضارع في ذلك مكة ، التي كانت مستقر ((هُبَل)) ، صنم قريش الأكبر .
السير الى الطائف على الاقدام نظرا للطرق الوعرة بين مكة الطائف تجعل شد الرحال على ظهور الخيل اسهل وايسر ، إلا ان النبي صلى الله عليه وسلم اضطر الى السفر سيرا على قدميه ، فلماذا قرر النبي السفر سيرا على قدميه ؟؟ واختيار زيد بن حارثة ليكون رفيقا له في تلك الرحلة ؟ و لم يختر رفيقا له من الفرسان الكبار لحمايته في الطريق مثل عمر بن الخطاب او حمزة بن عبدالمطلب او الزبير بن العوام او سعد بن ابي وقاص ؟؟
ولعل الجواب يكمن فيما يلي : ١-كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبا من كفار قريش في تحركاته لعدم اعطاءه أي فرصة للدعوة الى الله ، ولو اتخذ خيلا لراقبه المشركون في طريقه ، ومعرفة اتجاهه ، وهذا يعرضه للخطر ، ومن جانب الحذر لم يركب خيلا ، وانما اختار المشي على قدميه لصرف نظر قريش عن تحركاته واخفاء نيته في السفر. ٢-اختار غلامه زيد بن حارثة رفيقا له في تلك الرحلة الدعوية لتأكيد حركته العادية داخل مكة وعدم خروجه منها ، كما ان زيدا حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستطيع خدمته وحمايته والتضحية من أجله ، وسوف نرى ذلك اثناء تواجده في الطائف. وعلى هذا لم يختر أي من الفرسان الكبار مثل عمه أسد الله حمزة او عمر بن الخطاب وغيرهم لرحلته.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متسللا الى الطائف بعيدا عن عيون قريش ومراقبتهم له ، في شهر شوال من السنة العاشرة للبعثة ( في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619م) ومعه مولاه (زيد بن حارثة)، وقطع مسافة طويلة (120) كيلومتر تقريبا ، يقطعها المسافر الراكب في اربعة ايام تقريبا ، فكيف بمن يقطع هذه المسافة ماشيا على قدميه. وكلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبيلة في طريقه الى الطائف دعاهم الى الاسلام لكن لم تجبه أي قبيلة من تلك القبائل حتى وصل الى الطائف بعد عناء طويل . وفي الطائف عمد الى إخوة ثلاثة هم رؤساء ثلاث قبائل يدعوهم الى الله، وكانوا يعدون من اشرافهم لمكانة أبيهم في ثقيف، وكان عند احدهم امرأة من قريش من بني جمح وطلب منهم نصرة الاسلام : ( 1. عبْد ياليل بن عمرو بن عمير 2. مسعود بن عمرو بن عمير 3. حبيب بن عمرو بن عمير )
فكذبوه ، فقال احدهم : قال احدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . وقال الثاني : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا ، لئن كنتَ رسولا من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ، ولئن كنت تكذب على الله ، ما ينبغي لي أن اكلمك. فلما كذبوه ، ويئس منهم ، ظن انهم لم يستجيبوا لدعوته لكنه ظن ان تكون فيهم مروءة ، فرأى صلى الله عليه وسلم أن يُخفوا مجيئه اليهم ، فقال لهم : إذ فعلتم فاكتموا عني . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومَه عنه فَيُّذْئرهم ذلك عليه . (أي يثيرهم ويجرئهم)، ولكنهم للؤمهم لم يخفوا أمره ، بل أعلنوه. فلم يسمعوا له ، وسلطوا عليه السفهاء والصبيان ، فوقفوا له صفين يسبونه ، ويصيحون به ، ويرجمونه بالحجارة ، حتى اختضبت نعلاه بالدماء ، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى اصابه شجاج في رأسه ، ولم يزل به السفهاء حتى ألجأوه الى حائط – بستان – لعتبة وشيبة ابني ربيعة . زاد سليمان التيمي : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجار ة قعد الى الأرض ، فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون. فخلص منهم ورجلاه تسيلان دماً ، فعمد الى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حَبَلةٍ منه وهو مكروب موجع. النبي يرفع شكواه الى الله في ثقيف لقد هاجت في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكريات الألم في مكة وما وجده من تكذيب وتعذيب ، ثم ألم فراق عمه أبي طالب الذي كان يدفع عنه الأذى وذكريات خديجة التي كانت تواسيه بمالها وقلبها وشاركته همومه وآلامه في أحلك اللحظات، ثم هاهو أمام تكذيب ثقيف وتعذيبهم له جسمانيا ونفسيا ، فتجمعت عليه الاحزان بعد ان فقد كل ناصر وأنيس له في تلك الحياة ، فليس له إلا باب السماء ، فرفع يده وهو يهتف بالدعاء الحزين : ” اللهمَ إليك أشكو ضعفَ قوتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناس…يا أرحمَ الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربي .. إلى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُّني، أم إلى عدو ملكتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، لكن عافيتَك هي أوسعُ لي..!! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلماتُ ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلَّ علي غضبَك، أو أن ينزل بي سُخْطك. .. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك … “. انه الدعاء المنبعث من نفس حزينة متألمة لكنها راضية بقضاء الله ، ويهون عليها كل ما تتكبده في سبيل أعظم دعوة في الوجود، ولا يهم ذلك القلب إلا أن يتعرض لغضب الله .. وكل ما دونه مقبولا في سبيل طاعته ورضاه .
وعاد الهدوء الى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الدعاء الذي استسلم فيه الى قضاء الله ، وأسلم نفسه لله. وجلس صلى الله عليه وسلم بجوار حائط ليستريح قليلا بعد تلك المعاناة الرهيبة التي أعقبها بدعاء يهتز له القلب وتتفجر له العاطفة الانسانية ، وإذا في الحائط الذي أسند ظهره إليه عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، فلما رآهما كَرِهَ مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله . فلما رآه ابنا ربيعة وما لَقِيَ تحركت له رَحِمُهُما ، ، ورقَّا له ((وأرسلوا إليه بقطف من العنب مع مولى له نصراني اسمه عداس))* فَدَعَوَا غلاما لهما نصرانيا يُقال له عدَّاس ، فقالا له : خذ قِطْفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به الى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه . الغلام عداس يقبل رأس ويد وقدم رسول الله : قدم عداس طبق العنب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقال له : كُلْ. فوضع النبي يده في طبق العنب قال : باسم الله .. ثم أكل . فتعجب عداس ونظر الى وجه النبي وقال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له النبي : ومن أهل أيّ البلاد أنت يا عداس ، وما دينُك؟ قال عداس : نصْراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . (( نينوى : بلد على شاطئ دجلة وهي آخر ما ينتهي إليه العراق وامامها مدينة الموصل)) فقال النبي : من قرية الرجل الصالح يُونُس بن متى ؟؟ فقال عداس : وما يُدريك ما يونسُ بن متى ؟؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي ، كان نبيا وأنا نبي. فماذا كان من عداس ؟؟ فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبل رأسه ويديَه وقدميَه .. فقالا ابنا ربيعة أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما جاء “عداس” قالا له الرجلان : ويلك يا عداس ؟؟؟ مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال عداس : ياسيدي ما في الأرض شئ خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك ياعداس ، لايصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه . حاول الرجلان مع عداس لصرفه عن اتباع محمد والتمسك بدينه الذي عليه ، كأنما يريدان ان يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف صفر اليدين دون أن يكسب أي فرد جديد لدعوته.
وقال السهيلي (الروض الانف (وزاد التيمي فيها : أن عداسا حين سمعه يذكر ابن متى ، قال : والله لقد خرج منها –يعني نينوى- وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت انت متى ، وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه : هو أخي ، الى آخر القصة .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد لقي المرأ ة التي من بني جمح ، فقال لها كأنه يبين لها : ماذا لَقينا من أحمائك ؟؟؟ (الأحماء : هم أقارب الزوج ).
وفي حوار النبي مع عداس ، ظهرت براعته صلى الله عليه وسلم في كيفية ادارة الحوار ، مما ترتب عليه أن اصبح عداس يسأل عن المعلومة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، والانسان حين يسأل عن المعلومة فإنه يهتم بها ، ويعي مضمونها ، بخلاف ما لو أُلقيت عليه دون أن يطلبها ، لذا كان أثر تلك المعلومة على عداس واضحا ، فنجم عن ذلك أن قَبَّل رأس ويدي وقدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعلن إسلامه . هل اسلم عداس ؟ ورد في كتاب المغازي – تأليف ابي عبدالله محمد بن عمر الواقدي (الواقدي) المطبوع (طُبع) في مدينة كلكته بمطبع ببتست مشن سنه 1855 مسيحة ص28 : (( ثم أذكر ابن الحنظلية وشؤمَه فيردني حتى مضيت لوجهي ، فكان حكيم يقول لقد رأيتنا حين بلغنا الثَّنِّية البيضاء (والثنية البيضاء التي تُهبطك على فخ وانت مقبل من المدينة) إذا عدَّاس جالس عليها (الثنية البيضاء)والناس يمُّرون إذ مرَّ عليه ابنا ربيعة ، فوثب اليهما فأخذ بأرجلِهِما في غرزهما وهو يقول بأبي وأمي أنتما والله إنه لرسول الله وما تُسَاقان إلا الى مصارعكما وان عينيه لتسيل دموعهما على خديه ، فأردت ان ارجع ايضا ثم مضيت ومرَّ به العاص بن منبَّه بن الحجاج فوقف عليه حين ولا(غادر) عتبة وشيبة فقال : ما يبكيك ، فقال يبكيني سيِّدايَ وسيدا أهل الوادي يخرجان الى مصارعهما ويقاتلان رسول الله ، فقال العاص : أو أن محمدا رسول الله؟؟ قال : فانتفض عداس انتفاضا واقشعر جلده ثم بكى وقال : أي والله أنه لرسول الله الى الناس كافة ، قال : فأسلم العاص بن منبه ثم مضى )).
((((( أدناه صورة صفحة من كتاب مطبوع يدويا )))))
أشد يوم في حياة النبي : سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ثبت في الصحيحين أنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، سألتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالاً عجيباً غريباً، قَالَتْ: يا رسول الله: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟! انه سؤال صعب يحتاج العودة الى الذاكرة لسنوات كثيرة ، ومفاجأة تحتاج الاجابة : العودة بالذاكرة الى سنوات وتجارب ومواقف لاستخلاص ومعرفة اصعب يوم : ١_فهل مر على النبي أصعب من يوم أحد الذي استشهد فيه سبعون من اصحابه ومٌثلت بجثثهم وبُقرت بطونهم ، بل وشج في وجهه وكسرت بعض اسنانه، ودخلت الحديدة الواقية في رأسه؟ ٢_وهل كان يوم الخندق الذي بلغ فيه الخوف والشدة ونزل قول الله تعالى(((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)؟ فهل مر على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أشد من هذين اليومين؟؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم على سُؤالها : “لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ -(أي: لقيت منهم العناء والشدَّة والأذى(وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ”. وهو اليوم الذي وقف -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة، التي بمنى، يدعو الناس إلى الإسلام، فما أجابوه، بل آذوه وسبُّوه، فذهب إلى الطائف علَّه أنْ يجد آذاناً مصغية، وقلوباً واعية. مَلَكُ الجبال ينتظر أمر النبي بتدمير الطائف : تحرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهموم فيقول : ” فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت ، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك ، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، ثم ناداني ملك الجبال ، فسلم عليَّ ثم قال : يا محمد .. قد بعثني الله ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال قد بعثني اليك ربك لتأمرني ماشئت ، إن شئت فأطبق عليهم الأخشبين (جبلين بمكة المكرمة )!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله )) . وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم ((اللهم اهْدِ قومي فإنهم لايعلمون)) فقال جبريل : صدق من سمَّاك الرؤوف الرحيم)) . اطمأن قلب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المدد الإلهي من فوق سبع سماوات متمثلا في ملك الجبال ومعه جبريل ، فاستكمل طريقه الى مكة . الجن يستمعون للنبي في وادي نخلة : واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا من الطائف ، وفي طريقه الى مكة وصل الى وادي نخلة ، فأقام فيه عدة ايام وهو قريب من السيل الكبير ، بينما كان يصلى في جوف الليل ، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم سبعة من الجن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولَّوْا الى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا الى ما سمعوا . فقص خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم ، قال الله عز وجل ((وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن )) الى قوله ((ويجركم من عذاب أليم)) وقال تعالى (( قل أوحي الي نفر من الجن)) الى اخر القصة من خبرهم في هذه السورة . وكان سماع الجن وإيمان بعضهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، إذ فيه بيان أنه إذا كان قد بَطُأت الاجابة في الإنس ، فقد سارعت الجن إلى الاجابة (( فلا تأس على القوم الفاسقين)) سورة الاعراف 12. وهذه كانت بشارات للنبي صلى الله عليه وسلم ، مسحت سحابة الحزن واليأس والكأبة التي أطبقت على قلبه منذ ان خرج من مكة ووصل ال الطائف ثم غادرها مطرودا ومهانا عائدا الى مكة من جديد. فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك (يعني قريشا)؟؟ فقال له النبي : يازيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه . النبي يعرض نفسه ودعوته على القبائل كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رحلة الطائف ان يرجع الى مكة المكرمة مهبط الوحي التي تشهد اجتماع العرب في موسم الحج وان يجتمع مع وفود القبائل التي تأتي للحج الى بيت الله الحرام . وكانت قريش والعرب يقدسون و يحترمون اعرافهم الجاهلية وقوانينهم ومن ضمنها احترام اعراف وقوانين الحماية والجوار ، فإذا أجار أحدٌ أحداً ، فلا يحق لأحد ان يتعرض له بالأذى او السوء . وأيقن النبي صلى الله عليه وسلم أن اخبار ما حدث له في الطائف من أذى واستهزاء من ثقيف قد وصلت الى مكة ، التي ستشمت به وتزيد من آذاها واستهزاءها به، خاصة وأن قريش قد علمت انه قد ذهب الى الطائف ليستنصر بأهلها عليهم، وأراد النبي الحماية له ولدعوته وان يطلب الجوار من القبائل حسب الأعراف المعمول بها وقتئذ عند العرب. النبي يعرض نفسه على القبائل : عرض النبي نفسه على القبائل لعله يجد من يقبل الاسلام ويحمي دعوة الله : ١-فأتى كِنْدة في منازلهم ، وفيهم سيد لهم يقال له : مُلَيح ، فدعاهم الى الله عزوجل ، وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه . ٢-عرض على بني كلب ، فلم يقبلوا. ٣-عرض على بني حنيفة ، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبح ردا منهم ٤-عرض على بني عامر بن صعصعة ، فقالوا له : أرأيت إن نحن بايعناك على امرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون الأمر لنا من بعدك ؟؟ فقال النبي : الأمرُ الى الله يضعه حيث يشاء ، فقالوا : أفَتُهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمرُ لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه . ٥-ثم عرض نفسه على سويد بن الصامت الذي كان يسمونه قومه بالكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وقابله النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه الى الله والاسلام ، فقال سويد :فلعل الذي معك مثلُ الذي معي ، فقال النبي : وما الذي محك؟ قال :مجلة لقمان – يعني حكمة لقمان- فقال النبي : اعرضها علي ، فعرضها ، فقال له : إن هذا الكلام حسنٌ ،والذي معي افضلُ من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ، هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه القرآن ، ودعاه الى الاسلام ، فلم يبعُد منه ,وقال : إن هذا لقولٌ حسن . ثم انصرف عنه ، فقدم المدينة على قومه ،فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإن كان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بُعاث .
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء ، وبعث رجلا من خزاعة الى الأخنس بن شريق ليجيره ، فاعتذر قائلا : أنا حليف ، والحليف لا يجير. فبعث الى سهيل بن عمرو فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث الى المطعم بن عدي. الاحتماء بالمُطْعِم بن عَدِي : و درءا لهذا الأذى حاول رسول الله صلى عليه وسلم الاستفادة من قانون ((الحماية والجوار)) ، فارسل الى المُطْعِم بن عَدِي بن نوفل بن عبد مناف – وكان كافرا – يخبره أنه سيدخل مكة في جواره ، فأجابه الى ذلك وتسلح هو وبنوه وتوجهوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المطاف ، فقال له بعض المشركين : أمجيرٌ أنت أم تابع؟؟؟ فقال المطعم : بل مجير ، قالوا : إذن لا تخفر ذمتك . وفي رواية : قد أجرنا من أجرت . فقام النبي صلى الله عليه وسلم الى الركن فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف الى بيته ، والمطعم ابن عدي وولده محدقون به حتى دخل بيته .
بهذا أختم الحلقة (40) ونلتقي معكم الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة (41) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة إحتفاظى بالمراجع لعدم امكانية نشرها فى الجريدة فى الوقت الحاضر..أسأل الله ان يكتب لنا ولكم الأجر” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه اعظم نبى ورسول صلى الله عليه وسلم ويجمعنا به صحبة فى الفردوس الأعلى من الجنة.
اخوكم د. محمد النجار (17/08/2018) الجمعة 06ذو الحجة 1439ه