الشاعر العراقي اسماعيل سرت توركمن ووجده الصوفي لمدينته الأم
بقلم / منور ملا حسون
الاعتزاز بالوطن هو الباعث الأساس لمشاعر تعمقت في أعماق كل شاعر أو كاتب، وبعد حوار داخلي تتكاثف تلك المشاعر لتولد فورانا عاطفيا تتجلى من خلاله أبهى المفردات التي يبثها الشاعر عبر مداد قلمه على جسد القصيد .هذا إضافة الى أن الإرث الوارف والتراكمية الحضارية التي تكمن فيها صدق الإنتماء يثبت الشاعر من خلاله عمق هويته الوطنية بكل ما تعنيه مفرداته من تأثير في النفس .
والقارئ لقصائد الشاعر العراقي المعروف ( اسماعيل سرت توركمن) يدرك وبيقين أن الفكرة الأساسية قد تبلورت في ذهنه قبل الشروع في الكتابة .
إذ يشعر القارئ بصدق المعاناة الممزوجة بالصراع الداخلي للشاعر والذي يتمثل في واقعه المعاش فيجد نفسه في أحضان الشعر الدافئة .
قصائده تتغنى بالوطن وبمدينته ( كركوك) الحبيبة ، فالمتمعن في متون قصائد كتابه (گورگور بابا يا سلام ) والذي أصدره عام 1965 يجد جمالية الحرف في ايقاظ الموجود الحضاري التي تعزز الثقافة الوطنية للقارئ وكأنه يرسم لوحاتٍ ذات مساحات متداخله تتسم بجمالية الإبداع الشعري وتوظيفها من أجل إظهار عراقة تاريخ مدينته .
قصائد الديوان ،التي ترجمتها بالعربية ببعض من التصرف تتخذ طابعا سرديا يبث من خلالها همومه المكتظ بالزمان والمكان .. الزمان هو بعد مجزرة الرابع عشر من تموز 1959 والمكان هو توأم روحه (كركوك) فاستطاع توظيف الأحداث وإيقاظ مشاعر الحنين في ذهن القارئ والمتلقي قائلا :
أيا كور كور بابا تعال نتذكر الوجوه
وعيونا ترنو إليك عبر المدى
بتبرك، ما أكثر ما أشبعت من البطون
أنت أعلم بمن ينتظرونك
فعلام تجفو على مَنْ يحبوك ؟
ويتلمس القارئ هواجس الشاعر وصراعه الداخلي وهو يسحب سنين العمر الى الوراء . فقد عبر عن رؤاه المدججة بعبق ارتباطه بكل ذرة من تراب مدينته الرَّءوم .. و نلاحظ أن مفرداته تمتلك ايديولوجية الانتماء التي تكمن فيها إشراقة الأمكنة والحنين الى الجذر والأصل ومعرفة أسرار المكان المتمثل في مدينته الأثيرة ( كركوك) الحاضنة للحمرة الكهرمانية في ضياء كركر الأزلية :
كور كور بابا ، في ظل أضوائك لعبنا
كنا نفور حباً فوران نفطك في المراجل
ونسابق ديكة الفجر في الصياح
أين هي أيامنا تلك
لقد تهدمتْ حقولنا ..
ويضم الكتاب أيضا أبياتا تتصف بالوضوح وبسلاسة اللغة . فالقارئ يلاحظ وحدة الموضوع في وجده الصوفي لمدينته الأم عبر كلمات منح لها أجنحة بيضاء ، يكشف القارئ من خلالها مدلولات المفردة عبر الغوص في متون القصيدة . إذ أن للمتراكمات المشهدية دور في بلورة التاريخ والحضارة في ذهن الشاعر .
أما في قصيدة ( قره آلتون) والتي تناولها الأديب الراحل ( قاسم صارى كهيه) مع قصائد اخرى في كتاب (عراق توركمن أدبياتى تاريخى) أي (تاريخ الأدب التركماني العراقي ) 1968 ـ 1977 دراسة ونصوص فنلاحظ إن مدّ عواطف شاعرنا لا يعرف الجزر و كوامنهُ لا تسكنها إلا مفرداتٌ يبثها في متون قصائده عبر مداد قلمه ، تلك المفردات التي تُفصح عن مدى إلتصاقه بشرفات مدينته . ذلك الالتصاق الذي عبر عنه بدفء الهدوء وكأنه يصوغ سيرة تاريخية ويرسم لوحة فنية يفرزها حواره الداخلي الذي يجسد إنتماءه لأرضه في دوحة الأمل :
أنت يا ثروتنا تاج رؤسنا
يؤلمنا ما يؤلمه
كل الذين يستظلون بضيائك أخوة
أخوة يصونونك من العدا
شددنا الأذرع بالأذرع
أما في قصيدة ( يولجولوق) أي ( السفر) التجأ الشاعر الى أن يبث في متونها ملامح الخاطرة التي نسجها بملامح إنسانية زاخرة بمفردات وجدانية /
( رفيق دربي / صديق زمني / رجعت وحيدا .. ) ومفردات اخرى تحتضنها القصيدة /
أطير من حجر الى حجر
أبحث عن رفيق دربي
بين سنين طوال
لم أنتقِ صديق زمني
عدت مرة أخرى
فتعبت من سفر هذا الحب ..!
وما هذه المفردات إلا رد فعل واقعه الذي كان يتقطر ألماً وجيعاً نتيجة تجربة ومعاناة حتماً .
رحل شاعرنا (سرت توركمن ) من بيننا ، لكنه حفر دفء كلماته في أحجار القلعة الشماء ليرتشف الأجيال من نبعه الذي لن ينضب رغم الزمن .