الشباك
قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة
الاستاذ “كمال” ، موظف أوشك على نهاية العقد السادس من عمره، في الخامسة مساء كل يوم ، يتوجه الى شارع يتوسط مدينته الصغيرة، يقطع الشارع صامتا ، مرتين ذهابا وعودة ، غير عابئ بمن حوله ، شارد الذهن ، زائغ النظرات ، تتعلق نظراته بشرفة بيت قديم يتوسط الشارع ، تكرر الأمر لسنوات طوال ، ينتهى مشواره المعتاد بالجلوس وحيدا على مقهى يقع في منتصف الشارع قبالة شرفته الاثيرة.
ذات يوم ، وبعد نهاية مشواره اليومي وجلوسه على المقهى ، تصادف حضور أحد أصدقائه القدامى ، فبادر الى مصافحته والجلوس الى جواره ، كان “كمال” كعادته صامتا ، يشرب كوب الشاي الساخن و يدخن سيجارة بأصابع مرتعشة ، ولا تفارق الشرفة عيناه. فبادره صديقه قائلا “يا كمال انت بتتعب فى نفسك ليه، انسى عشان ترتاح، مهما رحت وجيت فى الشارع عمرك ما ها تشوفها تانى” . بصوت واهن متقطع ، رد عليه “كمال” قائلا “يا صاحبي صدقني كل يوم انا لسه بشوفها واقفة في الشباك بتبص لي من وراء الشيش، انتم بس اللي مش شايفينها ، عارف يا صاحبي اول ما أدخل الشارع ، بشم ريحتها ، وبحس انها موجودة جنبي، وبسمع صوتها وهى بتقولي تأخرت ليه؟”.
نظر اليه صديقه وقال “يا كمال، انت كبرت واولادك كبروا وتجوزوا، كل ده وانت لسه مانسيتش الشباك ده”، تابع كمال قائلا “عارف يا صاحبي لما اهلها اخدوها وسافروا من هنا، قالت لي إستنانى ها ارجع لك. وآهي..لسه سايبة البيت زي ما هو، منتظرها عشان ترجع ، تابع صديقه الحوار “يا كمال كلنا اتغيرنا ، ودي أكيد اتجوزت وعاشت حياتها ونسيتك من زمان”.
ضاق صدر كمال بكلمات صديقه الموجعة وقد زادت ألمه، فرد عليه بعد ما أخرج آخر سحائب دخان سيجارته من صدره مصحوبا بتنهيدة حزينة، ” يا صاحبي دي معايا كل يوم وبحكي لها وبشكى لها و بتقولي على كل الكلام، يا ناس هو كتير على الزمان ينساني شوية ، ليه الزمان مستكتر على متعة الايام الاخيرة ، بعد ما شفت منه سنين تعب وحيرة، يا ناس انا راحتي انى اعيش في اللي راح منى ، مش عايز حاجة من اللي جاي”، انتهى الحوار بعد كلمات كمال الاخيرة، وظلت عينا “كمال” مكانها جامدة ، بدمعها المتحجر ، معلقة بالشرفة الاثيرة لديه.
مضت الأيام ، وتغيرت معها احوال واقدار البشر ، وعاد الصديق ذات مساء الى ذلك المقهى ، و تفاجأ بإزالة البيت القديم المعهود ، فسأل القهوجي عن البيت القديم ، فأجابه “المقاول اللي هده كان بيقعد هنا وقال ان الست صاحبة البيت اتصلت بيه ودفعت له، عشان يهده لأنها عايزه الارض تعمل عليها مشروع، وأهوه خلاص راح البيت” ، فأسرع الصديق سائلا عن كمال صاحبه، فكان الرد ” لما راح البيت ، راح هو كمان ، الله يرحمه”.