Site icon وضوح الاخبارى

الشيخ رضا

الشيخ رضا 2

قصة قصيرة بقلم / أيمن سلامة

منذ أيام قليلة سمعت إعلانا من إحدى عربات التوك توك التى تملاء الشوارع فى مدينتنا الصغيرة , وكان الاعلان عن وفاة الشيخ رضا , وأخذت أنظر الى التوك توك حتى غاب عن عينى وأنا أستمع للاعلان و أتيقن من مكان العزاء .

ذهبت الى سرادق العزاء المتواضع بعد صلاة العشاء ، وجلست بجوار أحد المعارف القدامى , وبينما كنت أرتشف فنجان القهوة وأستمع الى صوت المقرئ المنبعث من جهاز تسجيل قديم , سألنى من يجلس بجوارى .. إنت كنت تعرفه ياهندسه .؟؟..فقلت له نعم كان زميلى فى الجامعه , فتعجب الرجل وسألنى ثانية..معقول الشيخ رضا كان طالب فى الجامعة ؟؟؟.

لم أرد على سؤاله , و أخذت أسترجع ذكراه معى التى بدأت فى أحد أيام الدراسة فى السنة الاخيرة أثناء عودتى من الكلية , حيث ركبت أحد الاتوبيسات العامة التى تربط بين مدينتى الصغيرة والجامعة فى عاصمة المحافظة التى نعيش فيها , ولما كنت متعبا جدا جلست عندما  سنحت لى الفرصة , وبينما كنت أطالع فى دفترى إحدى المحاضرات سمعت المحصل يقول لأحدهم إنزل يااستاذ  لازم تدفع ثمن التذكرة , ونظرت إلى الشخص المعنى بحديث المحصل ووجدته شاباً أكبر منى سناً ,  و ملبسه مهندم , ومظهره مرتب بعناية ويربط الكرافت , التى لم تكن منتشرة كثيرا بيننا فى ذلك الوقت , و لكنه كان صامتا تماما رغم إرتفاع صوت المحصل وهو يوجه اليه الكلام , و سأله أحدهم إنت رايح فين ياأستاذ ؟؟ فرد المحصل ده رايح آخر الخط , هو كل يوم بيركب معايا وكل مرة مش بيدفع  , فقال أحد الركاب هو شكله فى الجامعه بس حالته صعبه شويه خلاص لو طلع المفتش أنا هادفع لك ثمن التذكرة , فرد عليه المحصل ياسيدى ده المفتشين كلهم عارفينه , بقولك كل يوم يركب معانا يروح عند الجامعه ويرجع تانى معانا من غير ما ينزل من الاتوبيس ومش بيدفع خالص على طول كده ,  وهنا سألت المحصل هو إسمه إيه ؟؟؟ فرد على إسمه رضا , وأضاف راكب آخر معلقا على المشهد , لا حول ولا قوة الا بالله , هم أهله ساكتين عليه ليه ؟؟؟ .

إنتظرت حتى هدأت التعليقات , و سألته أنت ساكن فين  يارضا ؟؟ فلم ينظر ناحينى ,  ولم يرد وظل ينظر كما هو إلى الفضاء غير عابئ بما حوله , فسألته مرة أخرى ..طيب إنت فى الجامعه صحيح ..طيب فى أى كلية ؟؟؟ فنظر الى مطولا لكنه لم يجيب , و إنتظرت حتى أصبح المقعد بجوارى شاغراً فدعوته للجلوس , وبالفعل جلس بجانبى صامتا كعادته وتأملت مظهره عن قرب , فقد كان وسيما أنيقا بالفعل , يصلح للعمل بالمجال الفنى ولكنه شارد الذهن , زائغ النظرات , وسرعان ما إقتربنا من نهاية الخط وحين هممت بالنزول , إقترب منى وقال بصوت خافت كمن يدلى بسر خطير , حقوق.. كلية الحقوق , ثم مضى فى سبيله , وتعجبت من حاله إنه يتكلم مثلنا فلم لم يجب المحصل والركاب وتركهم يسمعوه كل ما سمع من إستهزاء به.

وفى مساء ذلك اليوم التقيت بمجموعة من الأصدقاء بالجامعة وسألتهم عن رضا فأجاب أحدهم وكان فى كلية الحقوق , الكلية عندنا كلها تعرف رضا , فهو يحضر معنا أحيانا ولكنه كما هو لا يتكلم مع أحد , وأقسم صديق آخر أنه يحضر معهم فى كلية التجارة ولكنه يرسب فى الكلية من سنين , وهنا أدركت ما به إنها حالة رفض للدراسه فى مجال لايريده , فلا أحد يدرى فى أى كلية هو بالتحديد ,. وسألت نفسى ومن منا لم يمر بحالة رضا  ؟؟؟؟, فكلا منا كان له  حلمه الخاص الذى غالبا ما يندثر مع ظروف الحياة المتشعبة , ربما القليل منا فقط ذهب الى الطريق الذى يريده ولكن ذلك لا يعنى أن نستسلم حتى تضيع سنوات عمرنا هباء كما يفعل رضا .

مضت سنوات طويلة ذهبت بنا الحياة خلالها الى طرق متفرقه , كل واحد ونصيبه كما يقولون , وبعد سنوات عدة سافرت للعمل بالخارج ورجعت فى إجازة عمل وأثناء خروجى من أحد المحلات بوسط المدينة وجدته أمامى .. رضا , ولكنه تحول إلى الشيخ رضا وقد ظهرت آثار السنين على وجهه وتغير هندامه الأنيق إلى ثياب المجاذيب كما نشاهدها فى الأفلام وتحول من الصمت إلى الصياح والكلام الغير مفهوم طوال الوقت , ويقف فى منتصف الطريق غير عابىء بأحد حوله , قابضاً على عصا فى يده مرفوعاً عليها علم ملون يلوح به فى الهواء .

تأملت للحظات مندهشاً من تغير حاله ..ثم إقتربت منه , وقلت له” إزيك يارضا فاكرنى..؟؟”., فتأملنى للحظات ثم قال لى بنفس الصوت الخافت الذى سمعته من سنوات عدة مضت ، مش قلت لك… حقوق …كلية الحقوق.

الشيخ رضا 1
                   المهندس أيمن سلامة
Exit mobile version