الشيخ محمود وقطته… قصة قلبٌ بحجم الكون ينير ظلمة الإنسانية
بقلم /مدحت سالم
في زمنٍ تغلبت فيه المادية على كل قيمة إنسانية وانسحبت الرحمة من القلوب كما تنسحب الظلال عند غروب الشمس وفي عالمٍ اجتاحت قسوته كل معاني النقاء حتى باتت القلوب كالحجارة بل أشد قسوة يشق النور عتمة الواقع عبر شابٍ عجيبٍ من ذوي الهمم العالية طالب بالأزهر الشريف من قرية صغيرة تدعى نجريج في محافظة الغربية شاب لم يكتفِ بأن يكون مختلفًا بل أصر أن يكون استثناءً.
هذا الشاب الذي حمل قلبًا لا يُشبه عالمنا قلبًا يتخطى ذاته ويتجاوز حدود الإعاقة الجسدية ليرتقي إلى مصاف النفوس النادرة التي لا تُقاس بالعمر ولا تُوزن بالأفعال بل تُعرف بأثرها إنه الشيخ محمود الذي شق طريقه من قريته الصغيرة إلى قلب العاصمة لا لغايةٍ شخصية ولا طلبًا لراحة أو منفعة بل لإنقاذ قطة صغيرة أصابها المرض واشتد عليها الألم حملها بيديه كأنما يحمل جزءًا من روحه وانطلق يبحث لها عن علاج وكأنما يداوي بها جراح إنسانية تنزف في أعماقنا دون أن ندري.
أسمى المعاني
لقد جسّد الشيخ محمود أسمى معاني الحديث الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) قلبه النقي الطاهر يفيض بالرحمة كأنه تجلٍ حيٍّ لقوله تعالى (فبما رحمة من الله لِنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران وما أصدق هذا القلب الذي لم يجعل من الإعاقة حاجزًا أمام تحقيق رسالته النبيلة بل مضى في طريقه بصبرٍ وإصرارٍ عجيب لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يقف احترامًا حمل محمود في قلبه رسالة أشبه بآية لم تُكتب على ورق بل نُقشت على صفحات وجوده.
محمود لم يكن يبحث عن تقدير أو إشادة بل كان يحقق معنى الحديث الذي يقول فيه النبي ص (( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )) حمل القطة كأنها طفل صغير أرهقه المرض وسعى بين الطرقات كأنما يسير على طريق الأنبياء الذين يرحمون الضعفاء ويقفون إلى جانب المظلومين لقد علّمنا هذا الشاب أن الرحمة ليست شعورًا عابرًا بل هي فعلٌ حيٌ يتجسد في أرقى معانيه.
ما فعله محمود يُعيد إلى الأذهان كلمات السيد المسيح عليه السلام (( طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون ))لقد كان محمود واحدًا من هؤلاء الذين يبعثون الأمل في عالم قست فيه القلوب وصمتت فيه الضمائر لقد حمل قلبًا طاهرًا كأنما هو من عالمٍ آخر عالمٍ لم تطأه أقدام الأنانية ولم تلوثه أهواء المصلحة الضيقة.
تعريف القوة
إن ما فعله محمود ليس أمرًا عاديًا بل هو رسالة موجهة لكل من يرى أن الرحمة ضعفٌ وكل من يظن أن العطاء بلا مقابل عبثٌ محمود أعاد تعريف القوة بأنها ليست في الجسد وإنما في الروح كما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (( الرحمة هي أعلى درجات الإنسانية لأنها تتطلب القوة في قلب مليء بالضعف ))
وفي هذا المشهد نستحضر كلمات المهاتما غاندي حين قال(( العظمة الحقيقية للأمة ودرجة تحضرها تقاسان بكيفية معاملتها لأضعف مخلوقاتها )) محمود لم يكن رمزًا للرحمة فحسب بل كان درسًا في القوة تلك القوة التي تتجلى في القلوب التي تعرف كيف تعطي بلا مقابل والتي تجد في العطاء لذة تفوق كل لذات الدنيا
لقد أعاد محمود تعريف الإنسانية في زمن ضاعت فيه التعريفات وتشوهت فيه المفاهيم لم يكن محمود يملك كثيرًا لكنه أعطى كل ما يملك لم يكن يسعى للشهرة لكنه صار أيقونة لم يكن يبحث عن مجد لكنه صار قصة تُروى في عالمٍ نسي فيه الناس كيف يُحبون بلا شروط
محمود هو النور الذي أضاء زاوية من عالمنا المظلم هو التذكير الصامت بأننا خُلقنا لنكون رحماء لا متجبرين هو اليد التي امتدت لتلامس أعماقنا لتذكرنا بأن الإنسانية ليست كلمة تُقال بل فعلٌ يُفعل.
دعوة للتأمل
إن قصة محمود ليست مجرد قصة عابرة بل هي دعوة للتأمل في أنفسنا في علاقتنا بالضعفاء من حولنا وفي قدرتنا على أن نكون بشرًا بحق هي دعوة لإعادة اكتشاف الرحمة كقيمةٍ عليا وكقوةٍ حقيقية تحكم عالمنا الذي صار يضج بالمظاهر ويفتقر للجوهر
محمود هو الصوت الذي يجب أن يُسمع هو الحكاية التي يجب أن تُروى هو المثال الذي يجب أن يُحتذى ليس لأنه فعل شيئًا خارقًا بل لأنه فعل شيئًا إنسانيًا في زمن صارت فيه الإنسانية استثناءً نادرًا الشيخ محمود يستحق أن نحتفي به لا كفرد بل كفكرة وكحلم وكقلبٍ ينبض بالإنسانية في عالمٍ يمتلئ بالجفاء إلى كل قلب حي إلى كل نفس طيبة هبوا لمساعدة محمود ودعمه فهو يستحق أكثر مما نستطيع تقديمه فهو ليس مجرد شابٍ عادي بل هو رسولٌ صامت للرحمة والمحبة.
مدحت سالم
كاتب وباحث