الصَّنمية … داءُ الإنسانية الأعظم !! بقلم : علاء الصفطاوي
الصَّنمية : هي تخلي الأفراد والجماعات عن حرياتهم في التفكير والتعبير والاختيار، وعن ممتلكاتهم التي منحهم الله إياها من أجل مخلوق آخر، ثم التوسُّل إليه ليردَّ بعضًا منها إليهم .
ويُطلق القرآنُ الكريمُ على الأقوياء الذين يغتَصِبون الحريات والممتلكات اسم ” الطغاة ” ( اذْهَبا إلى فرعونَ إنَّه طغَى ) طه 43 .. ويُطلق على الضعفاء الذين يُذعنون لهذا الاغتصاب اسم ” المستضعفين “( إن الذين توفَّاهُم الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا فِيمَ كنتم قَالوا كنَّا مستضعفين في الأرض ) النساء 97 .. ويصف القرآن الكريم الطرفين بالظلم، فالطغاة يظلمون غيرهم، والمسْتضعفُون يظلمون أنفسهم لأنهم رضُوا بالذل، بل إن القرآن يرسم المشهد المأساوي بصورة جليّة عندما يطلق على الطغاة اسم “الآلهة” وعلى الرموز والشعارات التي يُجسِّدُ من خلالها الآلهةُ ألوهيَّتَهم وسلطانهم اسم “الأصنام ” وعلى السَّدنة الذين يَصْبِغُون الشرعية والتقديس على تلك الآلهة اسم “السّحرة” .
وفي موضعٍ آخر يُطلق على الأكثرية التي تستمرئ الاستضعاف اسم ” المشركين” وعندما تستحكم علاقة الصنمية فإنها تؤدي إلى فساد فطرة الإنسان، وتنتهي به إلى سقوط منزلته بين المخلوقات، وتُفسد أخلاقَه وعقَله وذوقه، لكن الأعجب والأغرب عندما تتصاعد مضاعفات الصّنمية .. فتتحول إلى نوع من مرض السَّادِيَّة، حيث يتلذذُ الطغاة بانتهاك إنسانية المستضعفين، ويستمرئ المستضعفُون اغتصابَ حرياتِهم وسلب ممتلكاتهم وتدمير إنسانيتهم، ولذلك نجد إبراهيم – عليه السلام – يدعو ربه قائلاً ( رب اجعل هذا البلدَ آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) إبراهيم 35 .. أي الطواغيت ، وعندما تنظرُ إلى أبرز مشهدٍ يصور لنا ذلك المشهد المأساوي تجد القرآن يحدِّثُنا عن فرعون وزبانيته، ولك أن تتخيلَ المشهد ثم تسقطه على واقعنا المعاصر .. لتجد أنّ الطواغيت، تحولوا إلى آلهة لا ليسجدَ النّاسُ لهم، ولكن ليُشرِّعُ هؤلاء للنّاس ما يخالفُ منهجَ الله تعالى، وبالرغم من أنّ الزمن يبرهنُ بالدليل القاطع أنّ هؤلاء كانوا خونةً لشعوبهم إلا أننا نجدُ البعضَ ما يزال يُعلِّقُ صورَهم، ويتغنى بأمجادهم الكاذبة التي جرت على الأمة الويلاتِ والهزائم !!
وقد كثُرت في عُهود هؤلاء الألهة – أي الأصنامُ – الشعارات الزّائفة، وهو ما ظهر جليًا في الحِقبة الناصرية ثم وجدنا السدنة – أي السحرة – أو ما يُعرف في أيامنا بالصحفيين والمذيعين والمطبلين يبذلون وُسعَهم وغايةَ جُهدهم في شرعنةِ هؤلاء الطواغيت !
وبقيت صورةٌ واحدة حتى يكتملَ المشهدُ الأليم وهو وجود طبقة من الناس تُصرُّ أن تضع طوق العبودية في رقابها، وتأبى حياة الحرية، وتحنُّ إلى أن تعود إلى حياة العبودية التي تربت عليها ونشأت في أحضانها، بل وتتغنى بتلك الفترة، عندئذ تتذكر قول الله تعالى ( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) الأعراف 179 .. وهذه الحالة من الصّنمية لا تقتصرُ على فئة من الناس دون فئة، بل إن ما يثير الدهشة والعجب أنك تجدها في أوساط المتدينين، حيث نرى البعض من سدنةِ هؤلاء يُصبحُ صنماً يقدّم أتباعهُ قوله على آي القرآن، وعلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتكتسب أقوال الشيخ الصّنم قداسةً لا توجد – عند هؤلاء – للنّص الإلهي، مع أن الشيخ الصّنم في كثير من الأحيان لا يودّ ذلك، لكنّ أتباعه ومريديه هم مَن يصنعونه بخضوعهم، تحت زعم إنكار ذاتهم بين يدي شيخهم، فيتحول الشيخُ إلى صنمٍ تقدم له القرابين .. ويتمُّ تأليهُهُ باسمِ الدين !!
ومع أنّ الإنسان كلما ازدادت ثقافته ازداد شعوره بقيمة الحرية ومعاداته للصنميّة، إلا أننا رأينا مَن يدعون الثقافة – النخبة – وكثيراً ممن ارتقوا في سُلَّم الشهادات العلمية لم يستطيعوا أن يخلعوا من رقابهم قيودَ العبودية والرق، وتحولوا إلى قطيع من الهمج، وظهر فساد أخلاقهم وسوء طباعهم ، ورضوا أن يعيشوا في رحاب الصّنمية أذلةً صاغرين .. عن أن يعيشوا في رحاب الديمقراطية – التي تغنُّوا بها كثيراً – أعزةً آمنين !!
كلّ هذا لكراهيتهم للمشروع الإسلامي الذي رضعُوا كراهيتَه من ثدي الإمبريالية العالمية، والمتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، هُبلُ العصر الذي يطوف العالم حوله يخطبُون وده، ويتمنون رضاه !!
وهذه الحالة من الصّنمية التي لم تغب يوماً عن العالم، حتى بعد أن قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهدم 365 صنماً حول الكعبة إلا أن الأرض لم تخلو من الأصنام، حتى وصل الحال بكثيرٍ من الناس إلى عبادة الشيطان .
أمّا أخطر أنواع الصنمية فهي صنميَة الذّات، وأن يدور الإنسانُ في فلكِ نفسِه، وأن يخاطبَ العالم كما خاطبه فرعون من قبل : ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ( غافر 29 ) .. وقد وصف القرآن هؤلاء وصفاً عجيباً عندما قال: أفرأيتَ مَن اتخذَ إلهَه هَواه وأضلّه الله على عِلْم ( الجاثية 23 ) فعِلْمُه كان ينبغي أن يهديه لكنه جعل من هواه صنماً يعبدُه من دون الله، فضلَّ وحاد عن منهج الله فخسر دنياه .. وكذلك أخراه !!
ويوم نحطمُ أصنام الطواغيت، وأصنام الكهنة والسّدنة، وأصنام رافعي لواء الثقافة والديمقراطية .. ثم نحطمُّ الصنم الكبير الذي يُوجدُ بداخلِ كلّ واحدٍ منّا .. عندها ستحرّر الإنسانية .. وتسعدُ البشرية، ويعيش الناس أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم، يشعرون بذاتهم .. ويدركون غايةَ وجودهم !!