الطيارة الورق
بقلم / الفنان أمير وهيب
كل الناس ، أي انسان ، في تكوينه الطبيعي ، يمتلك ” شاشة ” لمشاهدة احلامه و هو نائم ، و يمتلك شاشة لمشاهدة ذكرياته ، و هناك فئة من الناس تمتلك شاشة لمشاهدة ” أحلامه ” و هو يقظ ، و هذه الشاشة يرى فيها ما يتمنى أن يكون.
المفارقة ان هذه الشاشات تشبه إلي حد التطابق أي شاشة من الشاشات المتعارف عليها ، ك شاشة السنيما و التليفزيون و الكمبيوتر و التليفون. والتي نشاهد ونتابع من خلالها كل ما يدور من حولنا من اخبار وأحداث وفقرات فنية وترفيهية ورياضية وغيره.
شاشة التليفزيون و الكمبيوتر و التليفون هي ضمنا اختيارية باعتبار يمكن تحويل ما تشاهده في أي لحظة.
و شاشة أحلام النوم ، هي مفروضة عليا ، و لا اختارها ، و انا شخصيا بمجرد دخولي ل النوم ابدأ أحلم ، و اذا صحيت لسبب ما وعاودت النوم ، ابدأ في حلم آخر . ومعظم احلامي بالألوان ، و قلة مصورة ب الأبيض و الأسود . و منها احلام بديعة تصور مشاهد تفوق خيالي و انا مستيقظ لدرجة اني اعتمد على ما شاهدته في الحلم في تحويله الي رسوماتي وتصميماتي . ومنها مشاهد مصورة كما لو كانت من الجنة ، مشهورة ب ” احلام سعيدة ” بحيث ان اصحى من النوم فرحان “مزئطط” . هذه الشاشة أيضا ، أشاهد عليها ، احيانا اقل ، افلام مفزعة مشهورة ب ” كابوس ” ، تضطرني ان اصحى علشان انقذ نفسي من الطيارة اللي هتغرق في المحيط لأجد نفسي لازلت حيا على السرير.
و شاشة أحلام اليقظة ، اعتقد انها لدى الموهوبين فقط ، يرى من خلالها حلمه متجسد . أي أن من لديه حلم يريد تحقيقه هم نسبة اقل ، من يمتلك حلم ، يمتلك موهبة ، يمتلك شاشة لمتابعة حلمه.
اما شاشة ” الذكريات ” ، هي شاشة كلها اختياري ، و احيانا احاول ان استعيد تفاصيل أكثر دقة لمزيد من الاستمتاع . فما هو مخزون ومحفوظ في خزينة ذكرياتي هو كثير وبعيد اي منذ الطفولة وممتع واحيانا مؤرق. بحيث ان مراجعة مشاهدة بعض أحداثه تجعلني اعيد السيناريو و اتمنى لو كنت استطيع تعديل الحوار.
واعتبر هذا المخزون من ذكريات هو الخزينة التي لا تقدر بمال ومحتوياتها كما لو كانت كنز ، ولمزيد من المتابعة على جودة المادة المخزنة احيانا كثيرة ارجع ٥٠ سنة للوراء و ابدأ في مشاهدة الشريط المسجل حتى أتأكد ان الشريط بحالة جيدة ولم يتلف.
من ضمن هذه الأفلام ، فيلم ” الطيارة الورق ” ، أحداثه في الاسكندرية ، سنة ١٩٧٥ ، وكانت خالتي ، حفيدة جدتي الأكبر ، مشروعها التجاري نجح وامتلكت عمارة مكونة من ٤ أدوار في منطقة لازلت لا أعرف حدودهما ، هل هي سيدي بشر أو ميامي ، و ان كان صدى اسم ميامي يربطك بمدينة في ولاية فلوريدا ، اما سيدي بشر فهو معقل الجمهور الشعبي المصطافين القادمين من القاهرة.
و كانت خالتي تصطحب كل أخواتها ، المتزوجين بابنائهم و غير المتزوجين ، وهذا المصيف تحديدا ظهر خالي ” ثروت ” ولم يظهر مرة أخرى في هذا النوع من الرحلات.
ثروت ، طالب في كلية الطب ، طالب متفوق وعلى درجة من الذكاء و يشتهر أنه يجيد صنع أعمال يدوية ، و من ضمن هذه الأعمال ” الطيارة الورق ” . فاقترحوا على ثروت من باب التسلية ان يقوم بعمل هذه الطيارة ، ووافق ، وبدأ الاستعداد للطيارة ، واول خطوة هي شراء مستلزمات المكونات ، خشب بوص ، ورق ملون ، نشا لزوم لصق الورق ، مقص ، وحبل و غيره.
وبدأنا في تنفيذ الطيارة وكان ثروت ، بلغة المهندسين ، مهندس الموقع ، وله ٢ مساعدين ، ابن خالتي الكبير وجوز خالتي الصغيرة ، و انا باعتباري مساعد اسطى عنده ٦ سنين ، اجيب حاجة انقل حاجة وغيره.
العمل مستمر على ترابيزة السفرة بتركيز وإتقان حتى اكتملت الطائرة ، الطائرة كبيرة نسبيا ولها ” ذيل الطائرة ” طويل ومقصوص بطريقة فنية.
الطائرة جاهزة للإقلاع ، وجرى جدال لبعض دقائق ، هل نطلقها من سطح البيت أو من البلكونة.
ومع بداية مغيب الشمس ، ذهبنا إلي البلكونة ، مكان إطلاق الطائرة ، كل من هم موجودين تقريبا ، يتقدمهم ثروت و معه الاثنين مساعدين ، و انا اتابع ومتشوق.
عملية الإقلاع لها تقنية معينة ، فلابد من إمساك الطائرة من طرف خيط قصير ، حتى تأخذ الطائرة وضع الانطلاق.
ثم أرخاء الحبل شيئا فشيئا حتى تتأقلم الطيارة على وضع انطلاق معين تبدأ معه في التحليق بسلاسة. وانطلقت وحلقت وارتفعت جدا حتى نهاية طول الحبل حوالي ٢٠ متر بحيث انها اختفت عن الأنظار .ولم نعد نرى من الطيارة الا الحبل المربوطة منه والقريب من نظرنا.
الليل ظهر بشخصيته المتميزة مما استدعى بعض الحاضرين ترك البلكونة و لم يستمر سوى ثروت وابن خالتي وحاولوا انزال الطيارة و لكن الهواء كان يحول دون إنزالها وبعد محاولات عديدة قرروا ربط الحبل في سور البلكونة. وخرجنا كلنا من البلكونة و تركنا الطيارة في سماء الليل مع الهواء.
اليوم التالي استيقظت مبكرا مسرعا على البلكونة عايز اشوف الطيارة وجدت جزء قصير من الحبل المقطوع في سور البلكونة وزعلت.
عزيزي القارئ ، اقترح عليك ان تعود الي خزينة ذكرياتك و استعيد مشاهدة اجمل ما يمكن مشاهدته على هذه الشاشة ، هذه الشاشة هي اجمل شاشة تمتلكها و هذه الشاشة تكفي لاستعدال حالتك المزاجية وتحسينها و هو ما يترتب عليه من تحسين صحتك بشكل عام.
أمير وهيب
كاتب وفنان تشكيلي