بالرغم من ذكاءِ الطّالبين ونباهةِ عقليهما وسطوةِ حضورِهما، إلا أنّ المعلم كان يقرّبُ أحدهما دونَ الآخر، وفي يومٍ تأخر هذان الطَّالبان عن مجلس العلم، فكانت فرصةً سانِحةً ليتوجه أحدُ الطلاب إلى شيخه بالسؤال قائلاً: لماذا يا شيخنا تُقرّب فلاناً وتُبعدُ فلانًا ؟! فأطرق الشيخُ رأسه قليلاً ثم قال في عَزمةٍ العالم: لن أجيبَ نظريًّا عن هذا السؤال، وإنما سأجيبُ عمليًّا، ولذا أطلب منكم إذا جاء هذان الطالبان وألقيا السلام فلا تردّوا عليهما !!
وبالفعل عندما جاء الأول – الذي يُبعده الشيخ – وألقى السلام، لم يرد عليه الجميع، فعاد وألقى السّلام مرة أخرى، ولمَّا لم يجد ردًّا تملّكه الغضبُ وهيمنَ عليه بسطوته فقال للجميع ( بما فيهم الشيخ ) : لقد أخطأتُ يوم ألقيتُ على أمثاِلكم السلام، وغادر المكان غاضباً !
ولما جاء الثاني ألقى السلام، فقُوبل بما قُوبل به الأول، فأعاد إلقاء السلام لعله يحظى بالرّد، ولمّا لم يجد ردًّا، ظهر الانكسارُ على وجهه ثمّ توجه للجميع قائلاً: أرجو أن تُخبروني عن الخطأ الذي ارتكبتُه فجَعلكم لا تردّون عليّ السلام ؟ !!!
وهنا التفت الشيخ لتلامِيذه وقال لهم: هل أدركتم السبب ؟ قالوا: نعم .
لقد ألقى الأولُ باللَّائمة على الآخرين، ولم يرجع إلى نفسه لعلها هي التي أخطأت، أما الآخر فقد أرجعَ الأمر لنفسه، ولم يتسرع في اتهام الآخرين !
وهذا منهجٌ قرآني في المحاسبة حيث يقول الله تعالى: أَوَلمَّا أصَابَتْكم مُصِيبَةٌ قد أَصَبْتُم مِثْلَيها قُلتُم أَنَّى هذَا قُل هو مِنْ عِند أنْفُسِكم إنَّ الله عَلى كُلِّ شيء قَدِير ( آل عمران 165 ) .
لكننا نتعامل في مثل هذه المواقف بمنطق: قل هو من عند أنفسهم !!
ونبرّأ أنفسَنا من المشاركة في تحمل الخطأ، إن العودة إلى النفس ومحاسبتها وإلقاء اللوم عليها هو أعظمُ طريقٍ للإصلاح، أمّا لو ظل أبناءُ الأمة يتلاومون فيما بينهم، والكلُّ يوجه اللَّوم للكلِّ فلن نتحرك للأمام قيدَ أُنملة .. بل إنّنا بفعلنا هذا نُقِرُّ عينَ أعدائنا .
عندما شاهد أحدُ القادة الأمريكان – في أثناء حرب الخليج الأولى – المسلمينَ وهم يَصْطَفُّون لأداء الصلاة في المسْجِد الحرام، أعلن دخوله في الإسلام، فلما سُئل عن سبب ذلك، قال: إن الدِّين الذي يجَعل هذا العددَ الضخم من النّاسِ ينتظِمونَ في صفوفٍ ون في لحظاتٍ دون توجيهٍ من أحد، هو دين وصل في تأثيره إلى أعماق النفس الإنسانية، وتركَ أثره عليها، ومن هنا بدأتُ أقرأ عن الإسلام ثم دخلتُ فيه .
لماذا يُظهِرُ المسلمون هذا الانضباط الهائل أثناء اصطفَافِهم للصلاة ؟!إنَّ الإجابةَ عن هذا السّؤال ِجِدُّ يسيرةٍ وهي أنّ كل واحدٍ من المسلمينَ يبدأ بنفسه ولا يلتفت إلى مَن بجواره، فلو عاد كلّ إنسان إلى نفسه وأصلحها لصلح المجموع، وتغيرت أحوالُ أمتنا، وعدنا لما كنّا عليه !
في قصة أصحاب الغار، والذين سقطت عليهم الصخرةُ فحبستهم ( وما أكثر المحبوسين في أمتنا ) ماذا فعلوا ؟!
تقرّب كلّ واحدٍ منهم بعملٍ صالح، أخلص فيه النية لربه، وتجرّد من حظِّ نفسه .. لكنّ السؤال المهم هنا : ماذا لو أنّ الأخير من هؤلاء الثّلاثةِ لم يكن في رصيده عملٌ صالح أخلص فيه القصد لله ؟! هل كانوا سيخرجون من الغار ؟! بالتأكيد : لا !! إذن كان تقصيرُ واحد سيؤدي إلى عدم نجاة الجَمِيع !!
إنّ مصدرَ العظمةِ في موقف خالد في غزوة مؤتة أنّه لم يُلقي باللائمة على جعفر بن أبي طالب، أو زيد بن حارثة أو عبد بن رواحة، الذين قادوا الجيش بهذا الترتيب كما أمرهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بادرَ وأمَّر نفسه – كما يقولون – ونجح في الخروج من المعركة بأقل الخسائر !!
إنّها روح المبادرة، والأخذ بزمام الأمور حين تحدثُ الأزمة وتتعقد المشكلة .
في كتابه ” الأسلوب الأمثل والألطف في التغيير ” ذكر نايف الزريق، هذه القصة: فوجِئ الموظَّفون بتابُوتٍ في مدخلِ الشّركة مكتُوبٌ عليه :
هُنَا يرقُدُ الموظَّف الذي كانَ يقفُ عائقاً في طرِيق تقدّم الشَّركة !!
وقفَ الموظّفون أمام التّابوتِ حائرين .. وهم يتساءلون :
مَن هذا الموظف الذي جعل شركتَنا تتأخر وكان عائقاً أمام وصُولِها لتحقيقِ أهدافها ؟!! .. والشوق يحدوهُم لمعرفته .
وهم في خضمِّ تفكيرهم خرج عليهم المدير وقال لهم :
الآن سيرى كلُّ واحدٍ منكم هذا الشخصَ .. ثم تقدّم ورفع الغِطاء من فوق التابوت، ثمّ طلب من الموظفين أن يتقدموا واحدًا تلو الآخر ليرى جثة هذا الموظف المشؤوم .. لكن الغريب أن كلَّ موظفٍ عندما ينظرُ في التابوت يظهر عليه الفزعُ ويغادرُ المكان سريعًا !!
أتدرون لماذا؟ لأنّ المديرَ وضع في التابوت مرآةً كبيرةً .. فكلّ من يتقدّم وينظر في التابوت يرى صورتَه هُوَ .. فيدركُ أنه هو العقَبةَ التي تمنعُ الشركة عن تحقيق أهدافها !!
إلى هنا انتهت القصة .
لكنها عندي لم تنتهي .. لأنّ الكاتب نَسِي أن يذكر أنّ المديرَ عندما وضع المرآة في أرضيةِ التابوت نظر فيها هو الآخر، فرأى صورته .. فأيقنَ أنّه أيضاً سببٌ في إعاقة الشركة عن تحقيق أهدافها !!
دعونا نقُول : أنّ الكلَّ مسؤول .. والكلَّ السبب … لكن متى نتوقفُ عن توجيهِ اللوم لبعضِنا .. والشّركة تنهارُ أمام عيُونِنا !!
أم آن لنا أن نبحثَ عن العلاج لنَخرج من الأزمة التي لو استمرت طويلاً سيدفعُ الجميعُ الثمنَ باهظاً .. في الدنيا والآخرة ؟ !!!!!
وإذا كان واجبُنا نحو أمتنا أن نُصلِحَ أنفسنا وندعو غيرنا، فإن الإيمان بفكرة ما يجبُ ألا يقف عائقاً أمام الانطلاق بها وسط النّاس، والعملِ على نشرهَا مهما واجهتنا العقبات، ومهما ادلهمت الخُطوب، فقي عالم الأفكار لا حدود للعمل والتغيير، فمن يُؤمن بفكرة يستطيع أن يتحرك بها بين الناس، لا تقف دونه العقبات، ولا تمنعه الروتينيات، المهم أن يكون مخلصاً في نشرها .. ساعياً من أجل تحقيقها !!
وإذا كان عباس محمود العقاد – رحمه الله – قد جعل عنوان أحد كتبه هو ( أنــا ) ودار فيه حول سيرته ومسيرته، فإن الأنـا التي أقصدها هنا هي الأنـا التي تعبر عن النّفس اللوامة، التي تلوم صاحِبَها، وتبصره بعيوبه فيعملُ جاهداً على إصلاحها، ليكون إنساناً صالحاً في نفسه، ثم يفرض عليه واجبُه نحو دينه وأمّته أن يتحوّل من الإنسان الصّالح إلى الإنسان المُصلح ، الذي يقوم بمهمة الأنبياء والصلحين .. ويأخذ بيد الناس إلى طريق رب العالمين .