العبور إلى المستقبل: تأملات بقلم د. أمين رمضان
الأمم مخيرة بين شحن الأجيال من بنك الألم والحقد والانتقام، أو شحنها من بنك المستقبل والأمل والأحلام، وليس معنى ذلك أن الأمم التي تصنع المستقبل عليها أن تنسى آلامها، بل تتناساها وتحولها إلى عزيمة وعمل وإنجاز، وترتفع فوق أنقاضها، ليكون لها المكانة العالمية التي تؤهلها لتصبح قوة مؤثرة في عالم اليوم.
عاشت اليابان أكبر كارثة في تاريخ الحروب البشرية عندما ألقت أمريكا عليها الجحيم من طائراتها سنة 1945، فكانت أول وآخر استخدام للسلاح النووي حتى الآن. في السادس من أغسطس سنة 1945، أسقطت القنبلة الأولى، أو الطفل الصغير كما كانت تطلق عليها، على هيروشيما وفي مجرد ومضة سريعة كان 66000 قد قتلوا و69000 قد جرحوا. وفي التاسع من أغسطس سنة 1945، أي بعد ثلاثة أيام فقط، ولمَّا لم تفق اليابان من فاجعة هيروشيما، أسقطت القنبلة الثانية، أو الرجل البدين كما أطلقوا عليها ويقصدون بهذا الاسم ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، تم اسقاطها على مدينة ناجازاكي اليابانية، ووفقا للتقديرات قتل 39000 شخصا فور الانفجار وأصيب 25,000 شخصاً لاحقاً.
صحيح لم ولن ينسى الشعب الياباني عبر أجياله المتعاقبة هذه المأساة، ولن ينساها العالم كذلك، لكن اليابانيون واصلوا بكل إصرار طريقهم ليصنعوا مستقبلهم، لدرجة أن كتاب صدر في اليابان نفسها بعنوان “اليابان التي تستطيع أن تقول لا” عام 1991، للكاتب الياباني شينتارو ايشيهارا، الذي كان حاكماً لطوكيو من عام 1999 إلى عام 2012، واشترك معه في هذا الكتاب رئيس سوني في ذلك الوقت آكيو موريتا ؛ فقط بعد ما يقرب من نصف قرن كانت تكنولوجيا الرقائق الالكترونية اليابانية هي التي تزود بها أمريكا صواريخها لتعطيها الدقة المطلوبة، وبالتالي تستطيع اليابان أن تقول لا وتمنع هذه التكنولوجيا المتقدمة عن أمريكا.
بعد الحرب العالمية الثانية لم توجه اليابان الأجيال الصغيرة ليَجْتَروا الألم والكراهية والحقد ويزرفوا الدموع، بل وجهتهم ليبذلوا العَرَق في ميادين صناعة الحياة المختلفة، وتحول الركام والرماد والآلام إلى قوة اقتصادية تؤثر على العالم كله، وتنتشر آثارها في حياة الشعوب شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، بل كان لها موطئ قدم في محطة الفضاء العالمية التي تدور حول الأرض حاملة معها أحلام العلماء والدول في المستقبل، بينما الشعوب التي مازالت تذرف الدموع على آلام الماضي، أو تتغني بأمجاده، قد غرقت في دموعها، وأسكرتها نشوة الغناء فعاشت بلا وعي، خارج التاريخ والجغرافيا، ظناً منها أن العالم سيتوقف ليشاركها الحزن في سرادق العزاء، أو يرقص معها في عالم السكارى.