العيون الرقمية: هل فقدنا خصوصيتنا تحت مراقبة الذكاء الاصطناعي؟

بقلم / الدكتورة هناء خليفة
لم تعد المراقبة مجرد كاميرات في الشارع أو أعين خلف نوافذ مظلمة. اليوم أصبحت المراقبة غير مرئية. صامتة. دقيقة.
عيون لا ترن ولا تتحرك، لكنها تعرف كل شيء.. نسميها العيون الرقمية.
في كل لحظة نلتقط فيها صورة، أو نكتب فيها تعليقًا، أو حتى نتوقف أمام فيديو دون أن نضغط «إعجاب»، تُسجَّل إشارة.
والإشارات تتحول إلى بيانات.
والبيانات تتحول إلى معرفة.
ومع الوقت… تتحول المعرفة إلى سلطة.
من مشاركة اللحظة إلى كشف الذات
نؤمن أننا ننشر لحظات بسيطة: فنجان قهوة، رحلة ممتعة، صورة عابرة.
لكن ما لا ننتبه له هو أن هذه المنشورات لا تُظهر فقط ما نريد إظهاره، بل كل ما لا نقصد قوله: مكان وجودنا، توقيت خروجنا، علاقاتنا، مزاجنا، وحتى درجة رضاك عن حياتك.
تطبيقات التواصل لا تكتفي بالنظر إلى الصورة، بل تفسّر ما خلف الصورة.
ومع مرور الوقت، تصبح حياتك كتابًا مفتوحًا… ليس لمن يتابعك فقط، بل لمن يجمع معلوماتك ويحللها ويصنع منها خريطة دقيقة لطباعك وأفكارك وسلوكك.
أنت تظن أنك تَعرض لحظة.
بينما أنت تَكشف نفسك.
الخوارزميات تعرفك أكثر مما تتوقع
تظن أن الخطر في البشر الذين يرون محتواك… لكن الخطر الحقيقي يأتي من شيء لا تراه أنت: الخوارزمية.
الخوارزمية لا تهتم بالصورة، بل تهتم بما وراءها.
لا يهمها كم صورة نشرت… بل ما الذي جعلتك تنشرها.
لا يهمها متى ضحكت… بل لماذا ضحكت.
هي لا تراك بعينٍ بشرية، بل بعينٍ سلوكية وعاطفية وتحليلية.
فجأة تجد إعلانًا عن شيء لم تبحث عنه أبدًا.
تظنها صدفة.
لكنها ليست صدفة… إنها ترجمة دقيقة لرغبة لم تعبّر عنها بعد.
الفقاعة الرقمية: حين تقودك التكنولوجيا دون أن تشعر
يبدأ الأمر بلطف… تطبيق يقترح عليك ما تشاهده، ثم يعرف نوع الموسيقى التي تفضّلها، وفي مرحلة ما، يبدأ باقتراح طريقة تفكيرك نفسها.
ما يحدث هو أنك تحاصر داخل عالم رقمي مصمم خصيصاً لك.
تقرأ ما يشبهك.
تسمع من يؤكد رأيك.
وترى فقط ما يوافق اتجاهك.
فتظن أن العالم كله يفكر مثلك… لأنه لا يعرض عليك إلا ما تريد أن تراه.
وهكذا تتحول الخوارزمية من مساعد… إلى موجه… ومن موجه… إلى متحكم غير مرئي.
المراقبة النفسية: الخصوصية لا تحتاج إلى كاميرا
العيون الرقمية لم تعد تبحث عن الوجه، بل تبحث عن المشاعر… تقرأ الطاقة في صوتك أثناء مكالمة، تفسّر سرعة كتابتك للرسالة.
وتعرف أنك غاضب حتى لو كتبت: «لا… مفيش حاجة».
الذكاء الاصطناعي لم يعد يراقب جسدك، بل يراقب نَفسك.
استعادة المساحة الآمنة
الحل لا يكمن في الهروب من التكنولوجيا.
ولا في إغلاق الحسابات والاختفاء.
الحل يبدأ عندما نتذكر أن الحياة لا تحتاج إلى جمهور كي تكون حقيقية.
خصوصيتك ليست أن تخفي كل شيء،
بل أن تختار ما الذي يستحق أن يظهر، وما الذي يستحق أن يظل ملكك وحدك.
الخصوصية ليست منحة من المنصات… الخصوصية قرار منك.
وختاماً..
لسنا ضد التكنولوجيا، ولكن ضد أن نفقد إنسانيتنا بسببها.
الذكاء الاصطناعي قد يرى الكثير، لكنه لا يرى القيمة الحقيقية للحظة التي تُعاش ولا تُوثّق.
في عالم يطالبك بأن تُفتح دائمًا…
اختر أن تحتفظ ببعض أبوابك مغلقة.
أنت لست مادة تُستَهلك.
أنت إنسان تُعاش حياته.




