الفن والثقافة

الـداء..والـدواء

قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة 

عندما أوشكت ساعات عمل الطبيب بعيادته الخاصة على الإنتهاء ووهنت معها قدرته على الاستمرار فى العمل، أبلغه مساعده بانتظار آخر مريض، كان المريض رجلا وقور الهيئة وقد علا الشيب جوانب رأسه، سرعان ما جلس إلى الطبيب واصفاً إياه شكواه الجسدية، فحصه الطبيب لكنه لم يجد لديه أى اعراض مرضية تفسر أسباب هذه الشكوى فقد كانت صحة الرجل جيدة مقارنة بمن هم فى مثل عمره، لم يجد الطبيب حلاً سوى أن يكتب لمريضه بعض المهدئات والفيتامينات المعتادة فى مثل هذه الحالات، غادر الرجل على أن يعود مرة أخرى لمتابعة حالته .

استمرت زيارات المريض كما استمرت معها شكواه كما هي حتى أيقن الطبيب أن أسباب الشكوى ليست جسدية ولكنها نفسية، طلب الطبيب من مريضه أن يصارحه بتفاصيل حياته وأحواله لعله يجد فيها شيئاً يُنير طريق الشفاء، تحدث المريض بـإقتضاب أول الأمر لكنه سرعان ما أطلق العنان للسانه ليخرج مايـُـثقل كاهله طوال سنواتٍ مضت، ولم يصدق الطبيب ما تسمعه أذناه عن المصاعب التي تحملها الرجل من الجميع حوله .

إنتهى حديث المريض الذى عبر عن إرتياحه بعد أزاح عن صدره عبئاً ثقيلاً، ثم سأل الطبيب “هل أجدُ لديكم علاجاً لمرضى الذى أعانى منه ؟”،  أدرك الطبيب أن العلاج لن يكون بالأمر اليسير فليس من المعقول أن ينقلب المريض على كل من حوله فجاءة حتى تتحرر نفسه من الكبت والهموم.

قال الطبيب “العلاج هو أن تتخلى دورك البطولي الذى تعيشه الآن لتنقذ نفسك مما أنت فيه فهل تستطيع ذلك؟” فأجابه المريض “إن محاولتي التملص مما أنا فيه صعبة وربما تكون النتائج عكسية” فقال الطبيب اذن لا دواء  لك عندي ولتعلم أن الدواء لا يكون بسيطاً مُستساغ الطعم  في معظم الاحوال بل أحياناً يكون شديد المرارة وأحيانا أخرى شديد القسوة كإجراء جراحة لبتر أحد الاطراف بالجسد للمحافظة على الحياة نفسها عليك إذن أن تختار لنفسك هل ستقبل بالدواء المرير أم تتحمل المرض فى صمت؟”.

غادر المريض وهو فى حيرةٍ من أمره، كما أيقن الطبيب أنه لن يعود مرة أخرى، ولكنه بعد فترة أطل ثانية في زيارةٍ غير متوقعة للطبيب الذى بادرهُ بتكرارِ جوابِه السابق قائلا ً “لا دواء لك عندي” أجابه المريض” أنه لا يريد دواء بل يحتاج إلى طبيبٍ يرتاحُ إليه ويستمع إلى شكواه لعله يجدُ في بثِ شكواه ما يريح كاهله” فأدرك الطبيب أنه قرر أن يتعايش مع مرضه حتى النهاية.

تكررت زيارات المريض حتى تحولت إلى نوع من الأُلفة والصداقة، واستمر الأمر كذلك حتى كانت آخر زيارة للمريض الذى صارح طبيبه بشكه أنه ربما تكون هذه هي آخر زيارة له، فتعجب الطبيب متسائلاً “هل بدر منى ما يُسيء اليك ؟” فأجابه المريض “كلا على الإطلاق ولكنه مجرد إحساس” غادر المريض للمرة الاخيرة، ومضت الأيام مسرعة حاملةً معها الكثير من أحلام البشر وأحزانهم وآجالهم .

ذات مساء حضر شاب إلى عيادة الطبيب، وعَـرَّف نَفسَه إلى الطبيب بأنه الأبن الأكبر لذلك المريض، نعى والده الذى أوصاه أن يحمل رسالته و شكره الى الطبيب، ودمعت عينا الطبيب وهو يقرأ رسالة مريضه المتوفى و التي كتب فيها “طبيبي و صديقي العزيز، شكرا لجهودك الصادقة معي في مرضى الأخير، اكتب اليك بعد آخر لقاء بيننا ربما يكون الاخير، ولكنى أردت أن أنقل اليك خلاصة تجربتي فى الحياة، لعلها تُنير الطريق لغيرى، لقد وجدت للناس فى حياة كل منا أشكالاً مختلفة، فبعضهم كالدواء بمختلف درجاته من المستساغ الطعم وحتى شديد القسوة منها، وبعضهم كالداء بمختلف درجاته من الحالات البسيطة وحتى الداء الذى لا علاج له إلا أن تتعايش معه، ولكل منا..رزقه..من الداء.. والدواء.

المهندس أيمن سلامة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى