أراء وقراءات

الفوضى الخلاقة وتداعيات المرحلة (2) بقلم :الدكتورة وفاء الشيخي

الفوضى الخلاقة وتداعيات المرحلة (2) بقلم :الدكتورة وفاء الشيخي 2
صورة تعبيرية

تؤمن النخبة الحاكمة وصناع القرار في الويالات المتحدة الأمريكية بالفلسفة البرغماتية وهي العمود الفقري ، والمحرك الأساسي في نشر وتطبيق الفوضى الخلاقة “المدمرة” ،  وتقرأ هذه النخبة المستقبل في ظل المعطيات والواقع والوقائع والتطورات ، بما يساعد ويوطن للمفكرين الاستراتيجيين الأمريكين تبني استراتيجية التلاعب والتعامل مع مؤشرات هذا الواقع لإيجاد الطريقة المثلى لإستثمار الفرص والتحسب للتهديدات التي يمكن أن تشكل خطرا على المصالح الامريكية،

بمعنى أن السياسة الامريكيةتسعى بما ترتكز عليه من عوامل القوة والهيمنة لتحقيق مصالحها،  وتستخدمها في زعزعة وتحريك الواقع لجعله يبدو فوضويا ، ومن خلال التلاعب بمؤشراته تبني وضعا سياسيا منسجما مع مصالحها .

كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تروج الى فكرة مفادها أن العالم سوف يشهد فوضى عارمة إذا ما انسحبت بشكل مفاجئ من أداء دورها في القيادة العالمية ، ذلك لأنها كانت إلى وقت قصير هي المسيطر العالمي الوحيد ، لا سيما بعد تفكك الأتحاد السوفيتي ، ولكن حقيقة الأمر الذي يعرفه الكثير من المحليلين السياسيين العالميين أن أمريكا وصلت مرحلة لم تعد قادرة على احتواء التحديات العالمية الكبرى لوحدها ، لأسباب عديدة أهمها دخولها العقود الماضي في عدة حروب انتهكتها وتسببت لها في ازمات كثيرة على المستوى الإجتماعي و الإقتصادي ،

وقد بزغت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تحديات جديدة على المستوى العالمي والدولي الأمر  الذي جعل الولايات المتحده الامريكية لا تستطيع استيعابها واحتوائها بمفردها، فتمخض تفكيرهم الإستراتيجي عن البحث والتقصي عن مخرج أو مخارج تبقيها متربعة على عرش الهرمية الدولية أطول فترة ممكنة ، مع اشراك أوروبا والصين في إدارة الشؤون الدولية،  الأولى كحليف،  والثانية كمنافس ، وتحقق الهيمنة والسيطرة لإسرائيل اقليميا  .

وبناءا على ذلك فإن  فكرة الفوضى الخلاقة بنيت لتؤثر على التوازن الاستراتيجي العالمي والاقليمي في اتجاهين :

الأول :   أن الولايات المتحدة تحافظ على مكانتها كدولة حاملة لميزان القوى الاستراتيجية العالمية  وجميع اللاعبين الدوليين ينطلون تحت قيادتها ، وإذا ما حدث خلل في تلك البيئة فإن الإستراتيجية العالمية ستئول الى نوع من الفوضى تجعلها تشهد انبثاق نظام دولي جديد يختلف في طبيعة تحالفاته و تعاملاته وعلاقاته في ما بين الدول العظمى والكبرى والمتوسطة والصغرى

والثاني :تستمر في توظيف الفوضى الخلاقة مستقبلاً في الشرق الأوسط و تعيد صياغة نهج جديد لشكل التوازن الإستراتيجي الإقليمي بدعائم هذه الفوضى  مستغلة في ذلك التصعيد الديني” كما سبق الذكر في الجزء الاول” ، الذي  يمثل أفضل بيئة لتنفيذ سياسة الفوضى الخلاقة،  في محاولة من الإدارة الأمريكية لبناء ميزان مذهبي في المنطقة يخدم مصالحها وأهدافها، تمهيداً لصدام حضارات إسلامي ، الأمر الذي أشار إليه كثير من الخبراء في تحليلاتهم ومقالاتهم  ، وقد فعلت ذلك في السابق على مستوى ضيق في العراق ، ومن ثم نقلته الى الشرق الأوسط ، حيث عملت وستعمل على تغذية التناقضات المذهبية على مستوى شامل ، لكي تجعل المنطقة تدخل في صراعات مذهبية الى جانب التجاذبات القومية تتعلق بالقوميات غير العربية ذات التوجه الانفصالي بما يهدد المنطقة وتماسكها واستقرارها.

فعلى على سبيل المثال،  استطاعت إيران بنظامها الداخلي الصارم وبرنامجها النووي المتقدم أن تشكل خطرا يهدد المصالح الامريكية وأمنها القومي، الأمر الذي يقلل من  احتمالية الخيارات العسكرية للولايات المتحدة في تعاملها مع  هذا البرنامج وذلك لخطورة هذا الفعل على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة ، لذلك فإن احتمال توظيف الفوضى في الداخل الإيراني وإثارة المشكلات لاسيما فيما يتعلق بالأقليات في مناطق عدة من إيران كالأكراد في شمال شرقي إيران أو العرب في الأهواز وحتى الأقليات الأخرى من المسيحيين و والتركمان والجيليك وغيرهم الموجودين في إيران أمر وارد جداً و له انعكاساته الواضحة على شكل التوازن في الشرق الاوسط  ،

بالإضافة أن لإيران نقاط ضعف كثيرة ممكن تفعيلها وتوظيفها لإشاعة الفوضى وزعزعة الإستقرار الداخلي سواءً العسكري أو المدني،كما أن المعارضة الإيرانية تتلقى الدعم من قبل اطراف دولية أهمها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ، وسيعملون على تفعيل دورها وتوسيع دائرة تأثيرها ، لتكون أحدى الأدوات التي تستعملها الإدارة الامريكية لخلق بيئة فوضوية تهدف لإسقاط النظام في إيران . الى جانب وجود رغبات شعبية في الداخل الإيراني تسعى لإحداث هذا التغيير  ، لهذا تذهب بعض الآراء الى أن موجات التغيير التي شهدها الشرق الأوسط في مطلع العام 2011 من الممكن أن تمتد الى ايران ، فآلية تعامل الادارة الامريكية مع الحالة الإيرانية  في المستقبل ، من الممكن جداً أن تعتمد هذا النهج وهذه الوسيلة للحد من التحدي الإيراني لمصالح الولايات المتحدة و(إسرائيل) في المنطقة.

ونشرت صحيفة الديلي سكيب اللندنية في موقعها الالكتروني يوم18فبراير عام 2012 موضوعا بعنوان(“If You Can’t Hear the Drums of War You Must Be Deaf”) يحلل فيه المفكر الاستراتيجي الأمريكي ووزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الأوضاع في الشرق الأوسط بعد موجات التغيير العربية ، ويقول إن إشاعة الفوضى الخلاقة على نطاق واسع وعالمي يمثل المرحلة الثانية من الإستراتيجية العالمية التي تحولت إلى خطة يتم الشروع في تنفيذها الآن على أرض الواقع في الشرق الأوسط ،وهذا الأمر يمهد الى إعادة تشكيل التوازن الاستراتيجي العالمي والإقليمي،  وتمكن القوى الدولية من تقييم مقدراتها وقدرتها وقوتها ، لفرض استراتيجيتها  من خلال هذا التقييم . فإذا  كانت المرحلة الأولى من هذه الإستراتيجية  جرت تحت شعار الحرب على الإرهاب، فإن المرحلة التالية ستجري تحت شعار الحرب على الاستبداد مع إبقاء فكرة توظيف الديمقراطية كبوابة للولوج الى خلق الفوضى التي تستهدف إسقاط (ألأنظمةالفاسدة)،وإدخال إصلاحات سياسية بعيدة المدى في العالم العربي.

ونحن اليوم وبعد الثورات العربية نرى حقيقة هذا القول على أرض الواقع، كما أشار بعض المحللين الآخرين الى أن توسيع دائرة سياسة الفوضى الخلاقة وتعميم التجربة في المستقبل على النطاق العالمي  لم تعد مجرد طرح نظري فحسب ،ولكنها أصبحت جزء من إستراتيجية ناجحة طبقت سابقا في العراق ونشهد نتائجها التي تم قياس نجاحها بشكل نسبي في الشرق الأوسط ،و يجري تنفيذها بالكامل على أرض الواقع في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا .

إذ إن هدف هذه السياسة “الفوضى الخلاقة” على النطاق الشرق أوسطي هو تقسيم الدول وتجزئتها الى مقاطعات ودول قومية وعرقية للسيطرة على مواردها ومقدراتها وثروتها، عبر آليات مختلفة منها ، اللعب على وتر القوميات والأديان والطوائف، كذلك تسخير وسائل تكنولوجية متطورة للغاية ، و أدوات غسل الأدمغة الحديثة بطرق مبتكرة و مبهرة ، إلى جانب التخذير الإعلامي اليومي المحلي والأمريكي عبر فضائياته المنتشرة عالميا، وبوساطة مضخات أمريكية وأوروبية ضخمة لتوفير أموال طائلة  تبذخ بلا حدود لمنظمات المجتمع المدني والهيئات والمنظمات الحقوقية وغيرها  ، ولبعض الساسة ولكل من يسعى ويساهم في تحقيق حلم أمريكا لقيادة العالم والسيطرة عليه.

ولا يستبعد الكثيرين من أن امريكا تهدف إلى تطبيق هذه الفوضى “عالميا ”  بآليات وأدوات تختلف عن تلك التي وظفتها الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط ، كذلك الأهداف تختلف من نطاقها الإقليمي عن نطاقها العالمي،  فهدف الإدارة الأمريكية من تطبيق هذا التكتيك الاستراتيجي عالمياً هو تحجيم الدول الصاعدة الجديدة وإيقاف نموها واستنزافها لكي تستهلك نفسها وقوتها ،   لأسباب عديدة أهمها هو توسع رقعة الصراع وانتقاله من الشرق الأوسط الى العالم بشكل عام ، لذلك فإن الفوضى الخلاقة سوف تكون إحدى آليات التعامل الأمريكي الدولي مع القوى الدولية الصاعدة التي تهدد مكانة الولايات المتحدة ، لاسيما أنها تعاني من أزمة تقدم ونمو مقابل تسارع نمو وتقدم مكانة الدول الصاعدة كالصين وروسيا والاتحاد الأوربي والهند ، وتعتبر هذه الدول الأكثر خطراً على مكانة الولايات المتحدة المستقبلية ، و تؤثر بشكل رئيسي في بلورة معالم و ملامح التوازن الاستراتيجي العالمي.

لذلك ستسعى أمريكا في نشر الفوضى عالميا للحفاظ على مكانتها العالمية ، لأن الولايات المتحدة  وكما يؤكد أغلب مفكريها المؤيدين والمعارضين للسياسات التي تنتهجها ، تدرك تماما أن هيمنتها وتحكمها بالشؤون العالمية بات في خطر مستمر وربما إلى زوال قريب .

لذا فإن مستقبل إستمرار توظيف هذه الفكرة يعتمد بالدرجة الاولى على النتائج التي ستحصل عليها  أمريكا من  النطاق الشرق أوسطي ،إذ أن منطق الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع الأحداث محلياً أو إقليميا أو دوليا أو عالمياً ، يبنى على تجارب سابقة لها.

ولكن الأمر ليس بهذه السهولة ،فالدول الأخرى تعلم ما ترنو اليه امريكا ، و تعرف كيف تتعامل مع أطماعها وتخطيطاتها،  وتمتلك استراتيجيات مقاومة عالية ، وترسانات عسكرية ومنظومات استراتيجية ، هذه الاستراتيجيات العكسية قد تقوض وتفشل تكتيك الفوضى الخلاقة وربما تقلب الامر عليها وتتبع نفس سياستها في أراضيها لينقلب السحر على الساحر، لهذا و عندما أطلق ماو تسي تونغ ، مقولته المعروفة عن الوضع العالمي” الفوضى تسود العالم ، فالوضع جيد”.

كان يعني  أن بإمكان أعداء الولايات المتحدة الأميركية أو أعداء الدول الكبرى التي يفترض أن تكون مسيطرة على العالم أن يستفيدوا من حالة الفوضى العالمية اذا ما وقعت ، وعلى هذا الأساس فإن مستقبل خلق وتوظيف الفوضى في الشؤون العالمية بحسب هذا المنطق ليست حكراً على الولايات المتحدة ولا القوى المسيطرة عالمياً ولكن من الممكن أن (تصنع او تتسبب) دولاً صغيرة او حتى كيانات وتنظيمات غير دولية فوضى تستطيع من خلالها الولوج لتغيير طبيعة بيئة إستراتيجية معينة و تؤثر على طبيعة التوازن الاستراتيجي العالمي ذاته ، او كبح جماح قوة دولية كبرى، فهل سنستفيق نحن الشعوب العربية والاسلامية وغيرها وندرك تداعيات المرحلة ونتدراك عيوبنا،   ونقيم الامور من منظور استراتيجي وسياسي وجيو سياسي ، ونصل الى خطة ونهج  نحافظ به على توازنات الاستراتيجية ومكانتنا الاقليمية،  ام اننا سنظل في سباتنا غارقين حتى نجد دولنا تفتت دوليات ومناطق ، أمرها وحكمها وسيطرتها في أيدي غيرنا !! ؟.

الفوضى الخلاقة وتداعيات المرحلة (2) بقلم :الدكتورة وفاء الشيخي 3
د. وفاء الشيخي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.