الفن والثقافة

القادمة تحت المطر

قصة قصيرة بقلم الكاتب والشاعر د. محمد توفيق ممدوح الرفاعي

مع إشراقة شمس خريفية ، وقد أخذت تتسلل أول خصلات جدائلها الذهبية الممتزجة مع لون برتقالي زاه عبر ستائر نافذتي، استيقظت على صوت زقزقة العصافير كأنهم في احتفال كرنفالي رائع .كأنهم يزفون عصفورين عاشقين ، كانا يصفقان بجناحيهما وكأنهما يرقصان طربا ويتبادلان القبلات وسط حشد من العصافير التي كان تحوم راقصة حولهما.

تسللت من فراشي بهدوء وصمت لاقترب من النافذة كي أستمتع بهذا المنظر البديع. وأترنم على صوت ألحان أغاريدهما وهم يؤدون أجمل طقوس العشق العفوي الذي يوحي بكل معاني الحب والرومانسية،ويشحذ أجمل العواطف في النفس العاشقة للجمال.

فكان المنظر ولا أروع فقد صبغت الشمس السماء بالوان جميلة رائعة حيث امتزجت مع سحب الخريف المتراكضة . فكانت تحجبها تارة وتنقشع تارة أخرى والجو ليس بالحار ولا البارد ولكنه كان يوحي بأن السماء قد ترسل تغيثها في أية لحظة. ومما يزيد المنظر جمال تلك الغابة الممتدة الأطراف التي تشرف عليها نافذة غرفتي فلا شيء يحجب بينها وبين الغابة.

وقفت أراقب العصافير الراقصة بهدوء وأترصد حركاتهم بشكل فضولي وسرحت بنظري عبر الغابة المترامية الأطراف وقد أصبحت كلوحة فنية في مرسم فنان بارع. فبعض الأشجار قد تعرت من أوراقها وأخرى اكتسبت أوراقها لونا اصفرا أو برتقاليا، والبعض تحدى عوامل الخريف وقسوته فاستطاع الحفاظ على لونه الأخضر .وقد امتزجت زقزقة العصفورين مع صوت حفيف أوراق الشجر المتطايرة ، مع النسمات الغادية والرائحة وصوت المطر التي قد بدأ بالهطول على شكل زخات خفيفة لتشكل سيمفونية مع صوت احتكاك الأغصان العارية.

وأمام هذه المناظر الخلابة والأصوات الجذابة تناهى إلى سمعي صوت أقدام ناعمة لعذراء صغيرة ،تسير متسارعة الخطى فوق تلك الأوراق المتساقطة من على الشجر فيعطيها صوتا خفيفا مميزا. أصغيت السمع بفضول علني أتبين من تلك صاحبة القدمين التي توحي بأنها لعذراء عاشقة أخذت تجد السير متلهفة للقاء الحبيب الذي ينتظرها على احر من الجمر . فأتت اليه شوقا في هذا الجو الخريفي نظرت إلى البعيد القريب . وانا احدث نفسي بأنني قد الفت صوت تلك الأقدام الغضة من قبل ، فان لها وقع خاص في نفسي ،واحتفظ بذكرى لصحبتهما.

فكمْ شهدت تلك الغابة لقاءات مع فتاتي الحسناء التي اعتلت عرش قلبي .وفجأة طار العصفوران العاشقان من على شرفة منزلي متجهين إلى الغابة ،وكأنهما يعلمان بقدوم تلك الفتاة ولديهما قصة معها فهبا لاستقبالها. غابا عن عيني برهة من الزمن ثم عادا وقد اصطحباها وهما يرفرفان فوق رأسها.

اجل كانا يعلمان بقدومك ولذلك كان احتفالهما على شرفة نافذتي. أتيت تسارعين الخطى ،تقطعين المسافات البعيدة بنظرة اشتياق ، تصارع رذاذ المطر الذي بدأ يتساقط على استحياء وقد ضممت يديك إلى صدرك تهدئين نبضات قلبك المتلاحقة كأنها تجد السير لتصل إلي قبلك .فكانت ترسل النغمات اثر النغمات تتسلل إلى أعماق وتين قلبي لترتمي فيه. ثم تمسكين بزوايا معطفك المتطاير لتلتحفي فيه. تحاولين جاهدة صد الرياح الباردة عن جسدك الغض، والذي تحتبس فيه آهة دافئة، تحاولين الوصول إلي قبل أن تخترقها نسمات الخريف الباردة التي أسدلت الستارة على نسمات الصيف ولياليه المقمرة ،حيث ملاذ العاشقين الآمن ومستودع أسرارهم ،فيرسلون رسائل الشوق الصامتة المتناغمة مع آهات الحنين ، وأمنيات الوصال ، ونجوى الأحلام.

كنت أنظر إليك متلهفا للقاء واجم ،أحاول أن أصدق ما تراه عيناي وأنت تسارعين خطاك المتعثرة هربا من الأمطار التي بدأت تهطل بغزارة ،كأنها تصر على أعاقتك عن المسير. كانت عيناك تنظران عبر المسافات تنادياني بلهفة الحنين المتشوق إلى اللقاء ،تحركه جذوة الجوى الملتهبة ، تشع من سويداء الوتين المضطرب الذي يخفق لوعة وأملا في الوصول ، ليهدأ في أحضان الحبيب وينعم بدفء العناق.

وبلا وعي خرجت من غرفتي مهرولا نحوك ،غير آبه لأي شيء في طريقي ،فلم تعد تعني لي المسافات شيئا ،ولا تعثري بأغصان الأشجار المتدلية . حتى الأمطار أحسستها كعطر تنثره ابتسامتك ، وأنت تنتظرين وصولي إليك بعيون تبرق شعاعا سرمديا تنير فيه كل الدروب المظلمة. لم أعد أرى في الطريق سواك ، طامعا في الوصول إليك .تسارعت خطواتنا على نغمات القلوب المتسارعة النبضات، ونظرات الشوق المتلهفة، وأنفاسنا المتلاحقة والتي تكاد أن تخرج كسهام كيوبيد .

ها نحن نقترب ، تتقلص المسافات ،فلم تعد تبعدنا الخطوات .ها نحن نلتقي ،هذه عباءتي فتحتها لأحتويك فيها ،لأحميك من المطر والبرد الذي اقتحم جسدك الغض. فالتحفتها واحتضنتك داخلها حيث ألقيت رأسك إلى صدري .فالتحمنا معا واحتوتني يداك المرتجفتان بردا وفرحا ،لتتعانق أنفاسنا فتعطرت أنفاسي، وانتشت من عطر أنفاسك الندية التي أخذت تتغلغل داخلها برائحة كرائحة أزهار الياسمين التي اغتسلت بطل الصباح .

ومن لهفة الشوق لننسى أنفسنا في عناق حميم حلقنا فيه عالم آخر ليس فيه سوى الربيع الدائم والقمر فيه يعانق الشمس تحت خمائل الياسمين الندية بطل محبب يغذي قلوب المحبين قد غفونا في عناق الشوق الخالد ونحن نغتسل تحت زخات المطر المنهمرة بغزارة لنغتسل فيه بطهر ماء السماء فكانت دافئة كدفء عينيك لتنسيني برودة الجو الماطر لأعيش أجمل لحظات العشق في حلم من الأحلام الوردية .

د. محمد توفيق ممدوح الرفاعي
كاتب وشاعر سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.