
Table of Contents
Toggleكشف جيني مذهل: المصريون القدماء لم يكونوا وحدهم
كتب / د. هيام الإبس
في إنجاز علمي غير مسبوق، تمكن باحثون من معهد “فرانسيس كريك” البريطاني بالتعاون مع جامعة “ليفربول جون مورز”، من إجراء أول تسلسل جينومي كامل لإنسان مصري قديم، عاش قبل نحو 4500 عام، ليُسجل بذلك أقدم جينوم مصري يتم توثيقه حتى الآن. هذا الكشف يمثّل قفزة هائلة في فهم الأصول الجينية للمصريين القدماء، ويعيد رسم خريطة التفاعلات البشرية في العصور الفرعونية المبكرة.
رفات من “النويرات” جنوب بني حسن
تم العثور على الرفات في موقع أثري يُعرف اليوم باسم “النويرات”، قرب منطقة بني حسن بمحافظة المنيا في صعيد مصر، ويُعتقد أن صاحبها عاش بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، أي في فترة انتقالية حرجة بين توحيد القطرين على يد الملك مينا وبداية عصر الدولة القديمة.
اللافت أن الجثة كانت مدفونة داخل جرة فخارية ضخمة داخل قبر صخري، وهو أسلوب دفن نادر، عادة ما ارتبط بطبقات اجتماعية عليا، ما يثير تساؤلات حول مكانة الرجل داخل مجتمعه، رغم أنه قد يكون كان من الحرفيين.
تحليل الحمض النووي يكشف تمازجًا حضاريًا مبكرًا
أظهر التحليل الجيني أن نحو 77.6% من الحمض النووي يعود إلى سكان شمال إفريقيا النيوليتيين، لا سيما منطقة المغرب الأوسط، بينما تعود 22.4% إلى سكان بلاد الرافدين القدماء، في دلالة على وجود تمازج وراثي مبكر بين مصر وبلاد ما بين النهرين، لا يقتصر فقط على تبادل السلع أو المعرفة، بل يشمل تداخلًا سكانيًا ملموسًا.
ويُعد هذا الاكتشاف أول دليل وراثي مباشر على اتصال بشري حقيقي بين الحضارات الكبرى في العصور القديمة.
ملامح الحياة: شقاء ومهارة واحترام
أوضحت نتائج الدراسة أن صاحب الرفات كان في العقد الخامس أو السادس من عمره عند وفاته، وهو عمر متقدّم نسبيًا آنذاك. كما أظهرت العظام تآكلًا شديدًا في المفاصل والأسنان، ما يدل على حياة شاقة تميزت بالعمل البدني المتواصل، ربما كحرفي خزف أو نحات، وفقًا لأنماط التلف التي وُجدت في الركبتين واليدين.
ورغم مهنته البسيطة، إلا أن أسلوب الدفن المميز يرجّح أنه كان يتمتع بمكانة مرموقة داخل مجتمعه، ربما تقديرًا لمهارته الاستثنائية.
إنجاز علمي رغم تحديات المناخ
في بيئة قاسية مثل مصر، يُعد استخلاص الحمض النووي من الرفات القديمة أمرًا بالغ التعقيد بسبب الحرارة والرطوبة، إلا أن الفريق البحثي نجح في استخراج المادة الوراثية من سبعة أسنان، عبر تقنيات متقدمة في التعقيم والتحليل.
وقد تمت مقارنة الجينوم المكتشف مع أكثر من 4000 جينوم من شعوب قديمة وحديثة، ما مكّن من رسم صورة دقيقة لتكوين الرجل الوراثي وتحديد جذوره بدقة مذهلة.
مصر القديمة لم تكن معزولة
تفنّد هذه النتائج الاعتقاد الشائع بأن مصر الفرعونية كانت حضارة مغلقة جينيًا، وتُظهر أن المصريين القدماء كانوا جزءًا من شبكة بشرية أوسع امتدت عبر شمال إفريقيا وغرب آسيا، وتفاعلوا وراثيًا مع شعوب الشرق الأدنى ومناطق بعيدة مثل بلاد الرافدين.
هذا التداخل يعزز النظريات الحديثة التي ترى في الحضارة المصرية نتاج تفاعل طويل ومعقّد بين شعوب متعددة، وليس مجرد تطور محلي منعزل.
بداية لخريطة جينية أوسع لمصر الفرعونية
ورغم أن الدراسة اعتمدت على جينوم واحد فقط، إلا أنها تفتح الباب أمام أبحاث واسعة النطاق تهدف إلى رسم خريطة دقيقة للتاريخ الوراثي المصري القديم. ويأمل العلماء في توسيع قاعدة البيانات الجينية من خلال تحليل المزيد من الرفات البشرية من مختلف المواقع والفترات داخل مصر.
وتقول أديلين موريز جاكوبس، الباحثة الرئيسية بالدراسة:
“نأمل أن تساعد هذه الاكتشافات في تتبع متى وكيف بدأت الحركات السكانية نحو مصر، وبناء قاعدة بيانات وراثية متكاملة تكشف عن طبقات جديدة من تاريخ المصريين القدماء.”
إعادة تعريف الهوية المصرية
تُبرز هذه الدراسة كيف يمكن أن تُعيد علوم الجينات صياغة مفاهيمنا حول الهوية الثقافية والتاريخية، وتكشف أن الحضارة المصرية لم تتشكل فقط على ضفاف النيل، بل كانت ثمرة تفاعلات بشرية وثقافية واسعة عبر آلاف السنين.
ولعل هذه النتائج تمثل دعوة لإعادة كتابة تاريخ المصريين القدماء من منظور علمي جديد، بعيدًا عن الروايات الأسطورية والانطباعات المسبقة.