المسبحة
قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة
تتسابق سيقان التلاميذ الصغار فى أولى أيامهم بالعام الدراسي الأول لهم , حاملةً معها مرح وآلام وأحزان الصغار فى بداية مسيرتهم نحو المستقبل , كما تتهادى خطوات المعلمين نحو فصولهم حاملةً معها مسئولياتهم نحو الأجيال القامة .
وفى هذه الأثناء دخل أحد المعلمين الى فصله , و إنهمك كالعادة فى الشرح والتفصيل لمحتويات الدرس , وبعدها أخذ يحاور الصغار فى ما إستوعبوه من الدرس , ولفت إنتباهه أحد التلاميذ , وقد تسمرت عيناه البريئتان على المسبحة التى وضعها المعلم على المنضدة ضمن متعلقاته الشخصية , فى البداية لم يُعْر المعلم الأمر اهتماماً , ولكنه تكرر عدة مرات بعد ذلك , حتى إستوقف المعلم هذا التلميذ وسأله عن تطلعه الدائم نحو المسبحة , فأجاب التلميذ ببراءة ..إنها مسبحة أبيه , و أردف سائلاً معلمه , إنت تعرف بابا يا استاذ ؟ , هو ها ييجى إمتى ؟؟ , صمت المعلم ولم يجب , لكنه شعر أن فى الأمر شيئاً ما.
بعد إنتهاء اليوم الدراسى سأل المعلم المعارف عن أحوال هذا التلميذ , فعرف أن الصغير يتيم , توفى والده منذ فترة قصيرة بالخارج أثناء سعيه على رزقه ودفن هناك , وهنا أدرك المعلم أن التلميذ يتعلق بمسبحة أبيه فعزم على أمرٍ ما , وفى اليوم التالي إستوقف المعلم هذا التلميذ ومسح على رأسه وأعطاه المسبحة قائلاً له إنها هدية من والده أرسلها اليه وأوصاه أن يحفظها ولا تفارقه , و إستمر المعلم في متابعة ومساعدة ذلك التلميذ والسؤال عنه وتذليل الصعاب أمامه إذا لزم الأمر .
سرعان ما إنتهت المرحلة الابتدائية , و غادر التلميذ المدرسة بنجاح , و انتقل إلى مرحلة أعلى فى التعليم , وقد أدرك التلميذ بالطبع ما كان من أمر أبيه , وعرف فضل معلمه عليه., أما المعلم فلم تفارقه المسبحة , وظل يؤدى دوره الذى بدأه مع التلميذ اليتيم صاحب المسبحة , وقد أدرك المعلم أن دوره لا يقتصر على الشرح للدروس , بل يشمل المتابعة لأصحاب الحالات التى تحتاج إلى الرعاية .
مضت السنون مسرعةً , وقد أخذت معها الكثير من أحلام الصغار , و أيام الكبار التى أوشكت على النفاذ , و أصابت المعلمَ أمراضُ الشيخوخة , ونُـقل على إثرها إلى مستشفى خاص , ليلقى المزيد من الرعاية وظل قابعاً بها عدة أيام , قبل أن يقرر الأطباء حاجته إلى عملية جراحية خطيرة , ومكلفة مادياً, وشـاءت الأقدارُ أن يزور تلميذه صاحب المسبحة أحد أقربائه المرضى بنفس المستشفى , ورأى معلمه وهو على فراش المرض , فسأل عنه وعرف أمر مرضه , فعزم أن يرد الجميل لمعلمه , فأسرع إلى مسئولي إدارة المستشفى , وأنهى معهم الأمور المادية الخاصة بعلاج معلمه , و غادر تاركـاً خلفه هديةً أُخرى لمعلمه , وبينما كان أبناء المعلم يحاولون تسديد تكاليف العملية لوالدهم , فوجئوا بإتصال من إدارة المستشفى تبلغهم أن العملية سيتم إجراؤها صباح الغد , أما التكاليف فقد تم تسديدها بالكامل , وبالفعل تم عمل العملية بنجاح , و بعدها بأيام قليلة بدأت صحة المعلم في التحسن , و ما إن إستجمع قواه , حتى تساءل بدوره عن كيفية تسديد تكاليف العملية , فأبلغته إدارة المستشفى أن من قام بذلك رفض ذكر اسمه , وترك فقط هدية إلى المريض وعندما فتح المعلم الهدية وجد بها مسبحته القديمة التي كانت هديته يوماً ما إلى تلميذه الصغير اليتيم.