الصراط المستقيم

المفكر عصام زايد يكتب : ملامح الإرتقاء في الشخصية العمرية

الحضارات تقام على أكتاف الرجال .. فإن أردت معرفة بداية الشرارة الحضارية عليك البحث عنها في قصص الأفذاذ و خصوصا هؤلاء ممن نشئوا في بدايات قيام تلك الحضارات العريقة .. قراءة التاريخ البعيد و القريب بالنسبة لي هي قراءة أحاول جاهدا فيها إستخلاص الموازين الحاكمة في شخصيات هؤلاء الرجال العظام ممن تحملوا دورهم في صعود الأمم وإنتشار القيم المؤثرة التي ساعدت في ذلك الصعود .. إذا قمت بالبحث بغرض الوصول لتلك الموازين فحتما ستصل لقواسم كثيرة مشتركة لهؤلاء الأفذاذ تأخذك لعلامات إن وجدت في الساحة فهي دليل بداية بزوغ جديد ..

عدم وجود موازين للرجال يعني ببساطة أنه قد يبهرنا مظهر أو سلوك يكون سببا في السقوط بدلا من أن يكون سلماً يأخذنا للبزوغ .. قد ننجذب لشخصية الرجل التقي الورع و نظن أن تلك الصفة تستطيع أن ترفع بمفردها جناحي الحضارة عندها نكون قد أصبنا  بالعمي والشلل الفكري .. فالرجل التقي الورع قد يوقف مسارات الإصلاح لعدم قدرته على إتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب. و قد تبهرنا شخصية الرجل القوي و ننسي أن القوة إن لم تقف أمامها العدالة تدمر كل القيم وتنكسر الروافع الحاملة ونسقط في رمال متحركة.

لذا كان البحث عن الميزان هو الضفيرة التي نستطيع من خلالها أن نحكم على القدرة .. هل ما بين أيدينا شخص يستطيع رفع الحضارة أم هو مجرد إنسان لديه بعض المهارات القيادية..

لقد نبهني كتاب الدكتور أحمد العمري ” استرداد عمر من السيرة للمسيرة ” لأن أعود للقرآءة مرة أخري  في تلك الشخصية العريضة ملتزما بمنهج البحث عن الميزان في الشخصية العمرية .. ماهي أهم المكونات التي  إستطاع من خلالها وفي فترة وجيزة أن يقيم حضارة عريقة في كل شئ .. وتجاوزت بها شخصية القائد لتحمل قيم الرسالة لأجيال متتابعة ومازالت حية بين أيدينا…

الميزان العمري حملته أولاً شخصية فريدة ناضجة في ما قبل إسلامها محملة بمجموعة من القيم جعلت الرسول صلي الله عليه و سلم يقول ( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) وهل يمكن للإسلام أن يعز بعمر وفيهم رسول الله صلي الله عليه و سلم .. إنها رسالة من المصطفي لنا أمة محمد .. رسالة تقول أن من يحمل الإسلام ليس شرطا بمن سبق وعاهد و بايع في البدايات و لكن هناك صفات في الرجال ننشدها ونبحث عنها و نتطلع لها قد لاتكون موجودة بيننا الآن و لكن الجهد ينبغي أن يبذل في إكتشافها و إن وجدت لايتم وئدها بل صقلها و إخراجها لتتولي ما يليق بها .. قيلت تلك الرسالة في مجتمع كان به أبي بكر و علي و عثمان و لم يعترضوا ولم يكتب التاريخ أن هناك حتي علامات تعجب قد سجلت .. رسالة قوية تحتاج لبصيرة واعية لتقبلها بل وللسعي للبحث عنها ..

ماذا يوجد في تلك الشخصية جعلت إسلامه عزة و الصفات التي يحملها تصلح أن تكون حاملة للحضارة في وجود الرسول صلي الله عليه و سلم و بعد وفاته … لن أطيل في المقدمات و لكني سأرصد ملمحين تمثلان نقاطا حاكمة يدور النقاش حولهما و تصلح لمباحث كثيرة قادمة …

الملمح الأول : الإستقلالية

عمر قبل إسلامه كان صاحب رأي و فكر مستقل .. لم يعرف عنه الهجومحمية أو عنصرية .. آرائه نابعه عن قناعاته التي عايشها و تغلغلت في كل جوانبه مما جعله صلب فيما يقول  .. يدافع عن ما يؤمن به ، ويكرس كل وقته ، وجهده له .. والإيمان بالفكرة إلى الحد الأقصي دون هوادة .. دون تردد .. دون مساومة …. حتي صارت المرجعية التي يحكم بها على الأمور .. العاطفة ليس لها دور في إصدار الأحكام .. قد يبكي لحادث أو فقد عزيز أو ينهض لنجدة مظلوم .. ولكن العاطفة لم تكن أبدا أساسا لصدور أحكامة … تلك الإستقلالية هي التي دفعته لدخول الإسلام .. عندما وجد قيمة أعلي من القيمة التي يحملها .. لم يتردد لحظة في إلغاء القديم و تبني الجديد .. كما لو كان قد ولد به … تلك الإستقلالية في الشخصية هي ما ميزت عمر طوال الطريق بصحبة الرسول صلي الله عليه و سلم و فيما بعد وفاته … تلك الإستقلالية هي التي جعلته يري ما لايراه غيره .. ولم تجعله يوما يتحفظ في إبداء ما يري بأدب للرسول المرسل … ووافقه الوحي مرات عدة وأصبح ما رأي قرآنا يتعبد به .

هذا التكوين العمري هو ما سمح له بعد وفاة الرسول صلي الله عليه و سلم في مخالفة بعض النصوص عملا بالمقاصد الشرعية في مواضع عدة و لعل أهمها .. وقف حد قطع يد السارق في عام الرمادة .. وكذلك عندما قام بإبطال سهم المؤلفة قلوبهم الذي كان يعطي ضمن أسهم الزكاة بالنص القرآني .. وتمثلت أيضا في عدم تقسيمه أرض العراق على المسلمين و تركها وقفا لعامة المسلميين بتتالي أجيالهم مواجهاً في ذلك معارضة شديدة من كبار الصحابة وظل يحاورهم حتي اجتمعوا على موافقته.

تاريخ عمر يشهد في مواقف كثيرة كيف كانت تلك الإستقلالية وسيلة دعت عجلة الحضارة تتقدم للأمام … هذا التكوين المستقل جعل العقل في رحلة بحث دائم عن الحلول .. ليس في النص المكتوب فقط و لكن في مقاصده عله يجد الجديد الذي يتوائم مع المتغيرات الجديدة التي تواجهه .. تلك الصفة لم تجعله تابع يعيش الهم .. ولكن قائد يحمل الهم و يبحث في الحل .

كم هم كثير تلك العقول التي أوقفنا الإستفادة منها بدافع مخالفة ما هو متفق عليه دون النظر للجديد الذي أتت به ؟ لقد قتلنا في مناهجنا الإستقلالية  و أردناها تماثلية .. فتوقف الإبتكار و الإبداع العقلي و حل محلهم الكسل الفكري و التقليد و الحفظ المستفز ..

الملمح الثاني : القدرة على رؤية مفترق الطرق

مرت في حياة عمر كثير من المواقف هي مفترق طرق في الحياة .. القرار فيها كان حتما علامة فارقة في مسيرته الخاصة أو مسيرة أمته .. تلك القدرة على رؤية مفترق الطريق تحتاج أن تكون مشغول دائما بأهدافك وغاياتك و كيفية تحقيق رسالتك؟ ذلك الإنشغال المستمر يجعل عينك دائما على الطريق و ما يحيط به من أجواء وأخطار .. وعندما يظهر تعديل المسار تأخذ القرار و تعدل المسير .. كثير من القادة لم يستطيعوا رؤية التقاطعات لإنشغالهم بقيادة القطيع عن رؤية نهايات الطريق ..

عمر رأي مفترق الطريق عند إسلامه فلم يتوقف ويتردد بل سأل عن صاحب الطريق وذهب .. عمر بعد وفاة الرسول صلي الله عليه و سلم أخذ بيد أبوبكر و بايعه إنه رأي مفترق الطريق فلم يتردد في القرار .. عمر عندما بدأت القلوب تنحرف في الإعتقاد و التصور عزل خالد .. وعندما بدأ القلب ينشغل بالدنيا أوقف الفتوحات …

عمر يري لأنه صاحب بصيرة و عقل يعمل على مدار الساعة .. عقل يؤمن بمقاصد الشريعة ويؤمن بالسببية .. عقل تربي على النظر فأيده الله سبحانه و تعالي بالصواب والرشد …

كم من أمتنا لديه القدرة على رؤية مفترق الطريق؟

المفكر عصام زايد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.