الناس أشجار تتحرك – ٢: تأملات بقلم د. أمين رمضان

الناس أشجار تتحرك - ٢: تأملات بقلم د. أمين رمضان 1

تحدثت في مقالة سابقة عن جذور الإنسان وجذور الأشجار، واليوم أتجاوز الجذور، وأرتفع عنها، ليكون الحديث عن عالم الذات في الناس والأشجار.

عندما تنظر في عالم الأشجار تجد التنوع لا نهائي، وعندما تنظر في عالم الناس تجد التنوع لا نهائي أيضاً، وشتان في التنوع بينهما، فالتنوع في عالم الأشجار تنوع تسخير، والتنوع في عالم الناس تنوع اختيار وإرادة وعمل وإبداع تعدى الإنسان ذاته، بينما في عالم الأشجار فإنه لم يتعداها.

تهب الرياح عاصفة مزمجره، فتقتلع الأشجار الضعيفة، وتصمد الأشجار القوية، التي رسخت جذورها تحت الأرض، ووقفت شامخة فوق سطح الأرض، صحيح أنها قد تنحني قليلاً لتعبر العاصفة، لكنها تنحني في إباء وهي واقفة ومتصلة بجذورها، وكذلك الناس عندما تهب عواصف الحياة العاتية عليهم.

تشتعل الحرائق في الغابات، لتزيل القشرة الصلبة عن البذور التي تحمل داخلها دورة حياة جديدة فتية، ثم بعد أن تخمد وتُهْلِكْ جزء كبير من الأشجار، تندفع الحياة الجديدة الفتية؛ الكامنة في البذور التي احترقت قشرتها؛ من تحت التربة في عزة وكبرياء، عابرة للمحنة وبادئة دورة جديدة للحياة، وكذلك الناس عندما تهب عليهم نيران المحن والفتن.

عاشت الأشجار في كل الظروف التي واجهتها، فنمت حيث ينساب الماء، وقاومت ندرته، وترعرعت في الصقيع، وقاومت أشد المناطق حرارة، وانتشرت في الأودية والغابات حيث التربة الهشة، كما انتشرت في أعالي الجبال الصماء تواجه تحدي الصخور وقساوتها، كذلك الإنسان، انتشر في جنبات الأرض كلها، ومد خياله للسماء فخرج من جاذبية الأرض للفضاء، ومد بصره تحت سطح الماء، فغاص في أعماق البحار والمحيطات ليرتاد قيعانها ويصور حياتها.

توقفت الأشجار عند حدود تسخيرها، بينما عبر الإنسان حدود وجودة الجسماني، لأنه يمتلك العقل والخيال والإرادة والفضول وحب الاستكشاف والقدرة على الاختراع والبحث عن المعاني، فأضاف إلى إدراكه المحدود، إبداعاته ومخترعاته التي مد بها إدراكه الزماني والمكاني، ليخرج من لحظة الآن إلى الماضي والمستقبل مستكشفاً، كأنه يركب آلة الزمن، ويخرج من لحظة هنا إلى هناك، فيرتاد المكان عابراً الحواجز، مستخدماً قوانين الكون أو سننه الربانية، بعد أن اكتشفها وفهمها، وصنع بها، ما يجوب به البر والبحر والجو، بل ما صعد به للفضاء، يسبر أغواره، ويسبح في أفلاكه، ليمتد وجود الإنسان إلى حدود لا تتوقف إلا مع توقف عقله وخياله وحريته.

لا فُضُول إلا في عالم الإنسان.

الناس أشجار تتحرك - ٢: تأملات بقلم د. أمين رمضان 2
الدكتور أمين رمضان
aminghaleb@gmail.com
Exit mobile version