بدأت الهجرة من الطائف و كان الذهاب اليها بهدف الدعوة للدين الجديد ،وطلب الحماية و النصرة .فكان أول مرة يخرج فيها صاحب الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم خارج دياره . فكر في تغيير نقطة الإنطلاق و كان قد هيأ مركز آخر احتياطيا في الحبشة و لكنه يرى فيه أسباب عدم صلاحيته و لنا هنا وقفة فممن هاجر إلى الحبشة خيرة القوم وأعلاهم نسبا و قربا منه رغم مخاطرها .
رفض قادة أهل الطائف و ثقيف الفكرة و نكثوا العهود و أغروا به سفهاءهم و صبيانهم فألقوه بالحجارة وآذوه. و لكنه لم يهن و لم يستسلم و يختبر إختبار شديد عندما عرض عليه ربه أن يطبق عليهم الأخشبين .و لكن الرسول قارئ جيد للتاريخ وواعي لدروسه ، فقبله قالها أخوه نوح لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا —إني مغلوب فانتصر —-. فكانت إجابته : “لا لعل يخرج من أصلابهم من يؤمن بهذا الدين”.
و قد كان فهاهو أحدهم يحكي قصته و هو خالد بن أبي جبل يقول أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في مشرف ثقيف و هو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبغي عندهم النُصرة فسمعته يقول ” و السماء و الطارق” حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية و أنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام أنها البذرة القاها و جنى ثمارها .
ورغم تجربة الطائف القاسية لم يفكر صاحب الدعوة في الهروب و الإستسلام عاد إلى الوطن مرة أخرى . و طلب الحماية و الجوار فرُفض من كل التحالفات و ها هو المطعم بن عدي يجاوره و يحميه و يحملها له الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم و يقول بعد غزوة بدر و في السبعين أسير لو كان المطعم بن عدي حي لوهبته هؤلاء النتنى .
و تتوالى الأحداث و يفقد الرسول محمد كل وسائل الدعم المادي و المعنوي و الحماية القبلية و ينكل به و يوضع على رأسه التراب . و يدخل على إبنته فتبكي و هي تغسل عنه وعن رأسه التراب و هي لا تعلم أن هذا التراب هو شذوذ الحياة الأرضية عندما تتقابل و تتصارع مع إنسانها الشاذ المتفرد. هذه قبضة تراب سفيه هي في مقدارها و سخافتها و محاولتها كعقل هؤلاء القوم المعاندون حينئذ و حين كل زمان و مكان .
ثم كان هذا التهيؤ للإنتقال للمدينه كمركز للإنطلاق و كانت فكرة عارضة و ليست مقصودة فهو يبحث عن العظماء الأقوياء فقد كانوا ستة نفر و لكنها كانت البذرة و كانت ثمارها رغم عدم الوعود و المناصب.
و أيضا نجد حادث الهجرة بعد حادث عظيم وهو الإسراء و المعراج وهي حادثة كلها خارجة عن إرادته و حوله و قوته رغم عظمها (أني معكما أسمع و أرى) .نعم كانت حادثة الهجرة أقوى و أعظم لأنها صنع و تخطيط و نتاج و محاولات قائد تحت رعاية إلاهية ليعلمها لمن بعده . ومن هنا كان إختيار الهجرة للتقويم العربي والاسلامي لا لمولد زعيم ولا إنتصار في حرب ولا فتوحات ، و لكن لأنها بها أسلوب إعداد الزعماء و القادة.
فالهجرة مدرسة تربوية لإعداد القادة لإنقاذ أمة فمن هنا يجب أن لا نقرأ التاريخ النبوي و القرآني قراءة صحف و مجلات . بل نقرأه قراءة الراوي الإلاهي المنطوي على الرموز و الأسرار ظاهرها الرحمة و هي تحمل في طياتها القسوة للتعلم و التدريس. فيها حكمة الغموض لكي نبحث و ننقب و ما الأحداث هذه إلا تربية من راوي التاريخ و مدبر الأحداث لشخص يحضر لزمن القيادة و تخليص العالم من ذل التبعية .