الهروب للأمام أصبح حرفة ( 2 ) ….. بقلم : عصام زايد
نهرب من لماذا خلقنا ؟ إلي العبثية !
تحدثت معي هاتفيا .. في نبرة صوتها المتقطعة همسة عتاب من المقالة السابقة التي كتبتها .. اعتبرت أن كل ما قيل يخصها وكأني ألقي عليها اللوم لما تلاقية من صعوبة في التعامل مع بناتها .. قالت .. ماذا أفعل أكثر مما فعلت ! أنا مهندسة وبعد دوام العمل أجلس لبناتي أستمع لهم و نتناقش .. صحيح لا يخلو النقاش في بعض الأحيان من الشجار أو انقطاع الإتصال و الذي أعزوه لإختلاف الأجيال .. ولكننا نتحدث حديثا لا ينقطع .. كما تتحدث أي أم لبناتها .. نتبادل الأخبار و الذكريات و المشاكل في العمل و مع الجيران .. وقصص الأصدقاء في الدراسة ومدي تطورها .. الدروس الخصوصية و تقدمهم العلمي .. كنت أظنني أماً ناجحة .. أوفر لهم دوما المظهر اللائق و الصحبة الآمنة و الدراسة المنتجة .. وفجأة بدأ التغير في سلوك البنات .. أسرار .. وهمسات .. وغلق لأبواب الغرف .. وجدار سميك بدأ يتكون تدريجيا بيني و بينهم .. وكلتاهما أحضر لي من ترغب في زواجه .. ودافعن عن الإختيار بشراسة و لم أملك إلا القبول .. وبدأت المشاكل والعواصف .. واكتشفت أن الكبري تشرب مع زوجها سجائر محشوة .. و الصغري خلعت الحجاب خلال العواصف الفكرية الأخيرة . أقسم لك أني لم أقصر و كنت نعم الأم و بديلا للأب الغائب في الخليج .. فماذا حدث ؟
أنت يا سيدتي لم تقرأي مقالي بعد .. وأرجو أن يكون لديك صبر لتكملي معي سلسلة الهروب للأمام حتي نقف أنا و أنت على أرضية تصلح للبناء .. قالت : و كأنك تتهمني في فهمي وقدرتي على الإستيعاب و أنا مهندسة يشهد لي أقراني بالرؤية الثاقبة و القدرة على تخطيط أعمال القسم الذي أترأسه بل أمثل لهم مرجعية في كثير من الأمور.
قلت لها و أنا أنتقي عباراتي ” هل تظني إني أشكك في قدراتك الوظيفية أو العلمية وأنا أطلب منك كثيرا المشورة في مجال تخصصك! ومن قال لك إني كتبت المقالة لك أو حتي كنت في مخيلتي و أنا أكتب.. إنك مثل الكثير و الكثير ممن يهربون للأمام دون التفكير في بناء قواعد صحيحة للإنطلاق ! .. وفي مقالتي التالية وحتي أكمل تلك السلسلة ستكوني و غيرك ممن استهدفهم حتي تتم الإفاقة .. الإفاقة من غيبوبة ضيق الأفق و النظرة للذات كمحور لحركة الكون .. إلي سعة الوعي بأسباب الخلق والنظر لدائرة الحياة من موقع المعمر صاحب الرسالة صاحب البصمة وليس من موقع الزائر المؤقت الذي يشغل وقته كيفما أتفق حتي تنقضي .. ”
سأختار من حديثك تساؤلك الملئ بالألم ” فماذا حدث ! ؟ ” هذا التساؤل الخالد الذي يواجهنا بشدة في الدنيا وخلال مشوار ومسيرة طويلة تستغرق أحيانا الجزء الأكبر من حياتنا لنتسائل ..
ماذا حدث ؟ لتكون النتائج غالبا ليست كما توقعنا !
السؤال الذي في الغالب سينتقل معنا بلا إجابة محددة للآخرة ..
وهناك ستكون إجابة وحيدة موجزة لن تنفعنا كثيرا معرفتها ! .
لماذا حدث ما حدث وكانت النتائج خلاف التوقعات ؟
عندما يغيب عنا إجابة السؤال لماذا أنا موجود في هذا الكون الرحب الفسيح ؟ أو بمعني آخر لماذا خلقت ؟
إن لم تكن الإجابة الصحيحة في ذهني ووعيي .. سأتوه مثلما تاه الكثير من حولي وسيحضر التساؤل المنطقي ” لماذا حدث ما حدث ؟ ”
لم يتركنا الله سبحانه وتعالي بدون إجابة .. بل قام من خلال القرآن بالإجابة على التساؤل الذي نتجنب كثيرا معرفة إجابته لأن الهروب يحمينا من المسئوليات الثقيلة إن عرفنا .. وإن كانت الحقيقة أن المعرفة ستجعل الصعب سهلا .. لأن لذة تذوق النتائج الصحيحة لا تفوقها لذة شعورية أخري
لم يتركنا الله سبحانه وتعالي لإجابات متعددة تحتمل طرق محتملة كثيرة .. ولكن بعدله جعل الإجابة لها مدلول واحد للطريق وإن كانت مطايا السير فيه تتم بطرق لا متناهية ..
الإجابة الميسرة للسؤال الخالد لماذا خلقت؟ تكمن في كلمتين في القرآن الكريم كلمتين فقط بينهما مساحة الحركة السهلة لمن أراد و الصعبة لمن أخفق في فهم المدلول منهما
نحن نتحرك بين كلمتي اقرأ و خليفة
اقرأ
هنا الإنتباه واجب .. لأن ما وصل إليه التقدم في العالم كله كان حافزه العلم و العلم لن يتم إلا من خلال القراءة و الإطلاع بكل أنواع القراءة المكتوبة و المسموعة و المرئية و الشعورية .. وكل الأنواع السابقة لن تتم إلا من خلال القلم ..
لذا كان أول أمر نزل به الوحي للرسول الخاتم هو هذا الإعجاز المتمثل في كلمة ” اقرأ ” .. اقرأ و دون ما تقرأه و ما تكتشفه حتي يتم البناء على أصول ليس للهوس أو الهوى دور فيها..
اقرأ أيها الإنسان المخلوق من “علق” مثلك مثل كل المخلوقات التي تدب على الأرض و ميزك الله تعالي عنها بنعمة العقل القارئ .. فإن لم تقرأ صرت مثل أي بهيمة تأكل وتشرب و تتوالد وتقضي الآيام كما تقضيها الأنعام ..
لقد لفت نظري لذلك المعني الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه البوصلة القرآنيه و الذي سأنقل منه مراده الذي قام بصياغته بأسلوب و رشاقة وصلت بي لبر الآمان في فهم واعي جديد لي ، فقد قال ( وبتصرف بسيط مني):
” الآيات الثلاث في سورة العلق ” سميت بالعلق وليس بأقرأ ” التي أنزلت أول مرة في الغار ، كانت تحمل إلي خلق الإنسان من علق . والعلق مضغة من الدم ، وهي طور من الأطوار الجنينية التي يمر بها الإنسان . لكن موقعها هنا بعد (اقرأ) مباشرة و قبل ( اقرأ ) مباشرة ، يثير الإنتباه والتأمل للوهلة الأولي على الأقل. لكن لا عجب فالعلقة دور من أدوار التطور التي يمر بها الإنسان إلي أن يصير إنسانا، بالظبط كما تمر بقية المخلوقات بأدوار و أطوار تختلف أو تتشابه مع الأطوار الإنسانية بحسب موقعها من خارطة الخليقة..
لكن تطور الإنسان لا ينتهي بإنتهاء هذه الأدوار الجنينية كما ينتهي تطور بقية الحيوانات. إنه لا يكتمل إنسانا إلا بخطوة أخري و طور آخر .. فينما يمر بتلك الأطوار كما الحيونات الأخري رغما عنه إلا أن هذا الطور الأخير لا يمر به إلا بإرادته ووعيه ، إنه يختاره أو لا يختاره ليكمل درب التطور أو يظل حيث هو.
هذا الطور بل هذه الحرية في الإختيار وتسليم الوعي و الإرادة لهذه المسئولية هو أول ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات وهذا الطور هو الوعي ذاته ، إنه ( اقرأ ) التي تحاصر الإنسان العلقة في الآيات الثلاث ( اقرأ ) هي الطور الإنساني الأخير الذي به يكتمل تطور الإنسان .. يقف الإنسان بعد أن أكمل تطوره الطبيعي الخارج عن إرادته .. ليقرر هل يكمل و يستجيب لهمسة الغار و يصعد ذلك السلم المضئ الملون … أو يقف مكتفيا بتطوره الجنيني .. فيقف على حافة السلم ، قدر الطحالب و الدواب”
اقرأ ستجعل منك إنسان يتحرك بوعي .. اقرأ .. وأنت تعلم أن كل ما تقرأه و تتعلمة هو جزء ضئيل جدا من علم الله سبحانه و تعالي و الذي علم آدم كلياته و ترك الله للتطور الطبيعي للكون أن يكتشف تفصيلاته الدقيقه ..
اقرأ لتحترف عملك ، لتبدع ، لتخطط لحياتك ، اقرأ .. هي نقطة البدء لتقوم بوظيفتك الحقيقية في الأرض .. تلك الوظيفة التي جاءت في الكلمة الثانية ” خليفة ”
اقرأ لترسم خريطة النهوض لك و لأسرتك و لعملك و للدنيا وخلال تشعب الطرق لا تنسي أن تورث تلك المعاني لأبنائك وتلاميذك و قرنائك .. عندما تقرأ ستعلم حتما أن دورك في الحياة ليس أسرتك أو النادي أو شركتك أو المسجد ودور العبادة .. فكل تلك الأمور هي وسائل من أجل أن تمارس وظيفتك الجديدة في الكون و التي أعلمنا بها الله سبحانه و تعالي في كلمة ” خليفة “.
وفي المقالة القادمة سأقدم ظلال حول تلك الوظيفة و قواعدها