الهروب من الواقع: لماذا يختار الجيل الجديد الشاشات بدل الحياة؟

بقلم / الدكتورة هناء خليفة
لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال، ولا الشاشة نافذة على العالم فقط.
بالنسبة لقطاع واسع من الشباب، أصبحت الشاشات عالمًا بديلًا يمنح ما يعجز عنه الواقع: الهدوء، السيطرة، الاعتراف، والشعور بالإنجاز.
في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بضغوط الحياة، يختار الهروب إلى الشاشة بدل مواجهة الواقع. هنا لا نتحدث عن استخدام طبيعي للتكنولوجيا، بل عن اعتماد وجداني يجعل من العالم الرقمي ملجأً نفسيًا دائمًا.
*العالم الرقمي: مساحة خالية من الفشل
في الواقع، كل خطوة تحتاج إلى مجهود، وكل قرار محفوف بالنتائج، وكل علاقة قد تنتهي بخيبة.
أما في العالم الرقمي، الأمر مختلف. الشاشة تمنحك وهم السيطرة، فأنت تختار كيف تظهر، ومتى تتحدث، ولمن تفتح الباب أو تغلقه. لا أحد يراك في لحظة ضعف، ولا أحد يعرف مشاعرك الحقيقية.
مع الوقت، يتحول هذا الإحساس بالتحكم إلى بديل عن التجربة الحقيقية، لأن الفرد يجد في العالم الافتراضي ما لا يجده في حياته اليومية: مساحة بلا خوف من الفشل.
*هوية محسّنة… أكثر جاذبية من الذات الحقيقية
داخل المنصات، لا يحتاج الفرد إلى مواجهة عيوبه أو ملامحه التي لا يحبها، فيكفي تعديل الصورة أو اختيار شخصية مختلفة داخل لعبة أو منصة.
هنا تظهر النسخة “المعدّلة”، نسخة مثالية، أقوى، أجمل، وأكثر تأثيرًا.
الخطير أن الدماغ يبدأ في مقارنة الهوية الواقعية بتلك الهوية الافتراضية. ومع تكرار المقارنة، يتراجع الرضا عن الذات الحقيقية، ويزداد التعلق بالحياة الرقمية لأنها تمنح شعورًا باحترام الآخرين وتقديرهم بقدر أكبر مما يقدمه الواقع.
*الاتصال الزائف: وجودٌ رقمي… ووحدة حقيقية
رغم كثرة العلاقات الرقمية، إلا أن الفرد يظل وحيدًا.
العلاقات عبر الشاشة لا تشبه العلاقات في الواقع، لأنها لا تفرض التزامًا ولا تواجه مشاعر حقيقية. يمكن إنهاء علاقة بمجرد الخروج من المحادثة أو حذف الحساب.
يتحدث الكثيرون طوال ساعات، لكن بمجرد إطفاء الشاشة يكتشف الفرد أن لا أحد بجواره فعلًا. إنها حالة نفسية معروفة اليوم بـ العزلة المتصلة: محاط بالناس رقميًا، لكن معزول إنسانيًا.
*الإدمان العاطفي للهروب… وليس للإنترنت
المشكلة ليست في عدد ساعات الاستخدام، بل في السبب الذي يدفع الفرد لاستخدام الشاشة.
عندما تصبح الشاشة ملاذًا للهروب من المشاعر الحقيقية، يصبح العقل مبرمجًا لربط الراحة بالهروب، بدل مواجهة التحديات.
تدريجيًا، يفقد الفرد مهارات التعامل مع الإحباط والصبر والمقاومة، فيبدأ الواقع يبدو أكثر صعوبة، والعالم الرقمي أكثر جاذبية، فتصبح الشاشة “مسكنًا نفسيًا” يُخدّر الألم ولا يعالجه.
*كيف نعود إلى الحياة؟
ليس المطلوب إلغاء التكنولوجيا، بل إعادة موازنة العلاقة بين الإنسان والشاشة.
الفكرة ليست أن نترك العالم الرقمي، بل ألا نترك أنفسنا بداخله.
العودة تبدأ من خطوة بسيطة: أن نعيش لحظة حقيقية واحدة يوميًا، لحظة بلا تصوير، بلا مشاركة، بلا جمهور.
لحظة تعيد الإنسان إلى ذاته، لأن الحياة التي لا يشعر الشخص أنه يعيشها… لا معنى لها مهما بدت جميلة على الشاشة.
وختامًا..
الهروب إلى العالم الرقمي ليس ضعفًا، بل نتيجة طبيعية لعالم يضغط، ويطالب، ويستهلك طاقة الإنسان حتى آخرها.
لكن الشاشات، بكل جمالها وجاذبيتها، لن تمنح مشاعر حقيقية أو علاقة صادقة أو إنجازًا يبقى.
العالم الرقمي يقدم نسخة مريحة من الحياة، لكن الواقع وحده يقدم نسخة حقيقية منها.




