أراء وقراءات

الهوية الوطنية المصرية بين الأصالة والتحديث

بقلم / مدحت سالم 

تظل الهوية الوطنية في مصر من أعظم المواضيع التي تثير النقاش بين المفكرين والكتاب والسياسيين فهي تلك الخريطة التي تحدد ملامح الأمة وتربطها بأرضها وبشعبها وبماضيها وبمستقبلها ولعل ما يجعل هذا الموضوع أكثر تعقيدًا هو التداخل بين الأصالة التي تشكلت عبر قرون من التاريخ والتحديث الذي يفرضه العصر المتسارع في عالمٍ أصبح قريةً صغيرةً في متناول كل فرد ولكل فكرة

*الأصالة والتحديث: معركة لا تنتهي

الأصالة في مفهمومها المصري هي تلك الروح التي تنبض في قلب الوطن مثلما ينبض التاريخ في كل ركن من أركانه فتاريخ مصر هو تاريخ حضارة تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام وهو تاريخ مليء بالإنجازات والملاحم من بناء الأهرامات إلى انتصار أكتوبر العظيم وبين هذه المحطات التاريخية العظيمة يتجسد في الذاكرة الوطنية للأمة صورةٌ متكاملةٌ عن منجزاتها ومفاخرها التي تؤصل الهوية وتدعم الانتماء إلا أن هذا التقدير لماضينا لا ينبغي أن يكون عقبةً أمام التحول إلى المستقبل فما من أمةٍ في العالم يمكن أن تحيا على أطلال ماضيها فقط فكما قال الفيلسوف الألماني يوهان جوتفريد هردر (( لايمكن للإنسان أن يعيش في الماضي بل ينبغي أن يعيش في الحاضر والمستقبل ))

لقد مرت مصر بمراحل تاريخية متعددة لكن العولمة التي فرضت نفسها على العالم في القرن الواحد والعشرين أضحت تحديًا حقيقيًا للهوية الوطنية المصرية فهي تعرضت إلى تسارع غير مسبوق في التكنولوجيا والاتصالات مما جعل الفجوة بين الماضي والحاضر تتسع بشكل مقلق لهذا فلابد من التكيف مع هذه المستجدات دون التفريط في القيم التي تربطنا بماضينا العريق إن الصراع بين الحفاظ على الأصالة والتقدم بالتحديث هو صراعٌ طبيعيٌ في كل المجتمعات ولكنه يصبح أكثر تعقيدًا عندما يكون هناك تاريخٌ طويلٌ مثل التاريخ المصري الذي يتميز بخصوصيةٍ لا تشبه أي أمةٍ أخرى

*الأصالة المصرية: هيكل الهوية

لا يمكن الحديث عن الهوية الوطنية المصرية دون التطرق إلى أصالتها التي تتمثل في العديد من الجوانب الثقافية والدينية والتاريخية التي شكلت الشخصية المصرية عبر العصور ففي القرآن الكريم نجد في سورة الحشر قوله تعالى {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هذه الآية تحمل رسالة عظيمة عن الإيمان والروحانية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية المصرية ولعل هذا التراث الديني هو واحدٌ من أكثر العناصر تأثيرًا في تشكيل الهوية فقد سعت مصر دائمًا إلى الحفاظ على توازنٍ بين تراثها الديني الإسلامي الذي يعكس روح الأمة وبين القيم الإنسانية التي تلامس الجميع

وعلى مستوى الثقافة نجد أن اللغة العربية التي هي وعاء الفكر والمعتقد والتاريخ تمثل مكونًا رئيسيًا في الهوية المصرية لا يمكن التغاضي عنها فالعلاقة بين اللغة والهوية علاقة متشابكة فاللغة العربية ليست فقط وسيلة للتواصل بل هي أيضًا رمزٌ من رموز الأصالة المصرية التي تمتد عبر التاريخ من شعر المتنبي إلى حكمة الإمام الشافعي فالشعر العربي والثقافة العربية كان لها دورٌ كبيرٌ في الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة المصرية

*التحديث في مواجهة الأصالة: إشكالية العولمة

وفي هذا العصر الذي بات فيه العالم مترابطًا بشكل غير مسبوق وتعمَّقت فيه تأثيرات العولمة تزداد أهمية التحديث لتأمين مكانة الأمة في الساحة العالمية فالعالم أصبح في حالة دائمة من التحول السريع ولابد لمصر أن تواكب هذه التحولات عبر تحديث بنيتها التحتية وتعليمها واقتصادها وتقنياتها ولكن التحديث لا يعني الانفتاح الكامل على الغرب دون اعتبار للخصوصية الثقافية كما لا يعني التجاهل التام للعولمة التي تفرض نوعًا من الانفتاح والتبادل الثقافي فنحن في حاجة إلى استراتيجية تكاملية تجمع بين الأصالة والتحديث لتحقيق توازنٍ بين الحفاظ على تراثنا وبين الاستفادة من التقنيات والمعارف الحديثة على سبيل المثال نجد أن اليابان وهي دولة متقدمة تقنيًا استطاعت الحفاظ على تقاليدها وثقافتها دون أن تتخلى عن حداثتها فقد قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (( التحديث لا يعني التخلص من الماضي بل بناء المستقبل من خلاله ))

*تحديث الهوية المصرية : رؤية المستقبل

إذا كانت الهوية الوطنية هي المفتاح لفهم تاريخ الأمة ومواكبة المستقبل فإن المضي قدما نحو بناء هوية مصرية جديدة يرتكز على التحديث مع الحفاظ على الأصالة يعد تحديًا كبيرًا يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة فإن الفارق بين الماضي والمستقبل ليس في القطيعة بل في القدرة على التكيف مع التغيرات مع الاحتفاظ بجوهر القيم الحقيقية التي نؤمن بها فلا يمكن لأمة أن تعيش خارج إطار زمانها

*تجارب دولية: نموذج الهند وتركيا

إحدى التجارب الناجحة التي يمكن أن تُستفاد منها مصر هي تجربة الهند التي حافظت على قيمها الثقافية والدينية حتى أثناء التحديث الشامل لمجتمعها من خلال تشجيع الفنون والموسيقى التقليدية في ظل التطور التكنولوجي فالهند رغم كونها دولة متعددة الأعراق والأديان إلا أنها استطاعت أن تبني هوية قوية متجددة تستند إلى التعددية الثقافية

أما تركيا فقد كانت تجربتها في الدمج بين التحديث والهوية ثقافية أيضًا فبعد صراع طويل مع الأيديولوجيات الغربية استطاع الشعب التركي الحفاظ على تقاليده الثقافية الإسلامية في ظل التحديث الذي حققته في مجالات عدة وخاصة في التعليم والصحة والتكنولوجيا فالتوازن بين الحفاظ على الهوية القومية والاندماج في العالم المعاصر يعد مفتاحًا رئيسيًا لأي دولة تسعى للبقاء والازدهار في العصر الحديث.

* التحدي الكبير

وفي النهاية فإن الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية بين الأصالة والتحديث يتطلب منا كأفراد وأمة أن نعيد التفكير في مفهوم الهوية الوطنية ليس من خلال التفريط في الأصالة أو الخضوع للحداثة بل عبر إيجاد حوارٍ بين الماضي والمستقبل فكما قال الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إيمرسون (( الهوية ليست مجرد ما نملك ولكن هي ما نصبح عليه)).

إدمان التشتت الرقمي واستلاب العقل البشري 2

مدحت سالم 

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.