انتحار مُعلّم ..الحـدثُ والدِّلالات !! بقلم : علاء الصفطاوي
مهنةُ التعليم مهنةُ الأنبياء، ورسالةُ العظماء، ويكفي المعلمين فخراً حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : إنّما بُعثتُ معلّماً . وهذا توصيفٌ دقيقٌ لرسالة المعلم، حيث إنه يُرشِد المتعلمين إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وكما الأنبياءُ من قبلُ قوبِلوا من قومِهم بالتعنِيف .. كما فعلت معَ النّبي ثقِيف، فإنّ المعلمين يُعاملون في مجتمعاتهم معاملةً سيئةً لا تليق أبداً بقدرهم .. ولا بسمو رسالتِهم . وهذا مشهودٌ ومعلوم، والهدف منه مقصود، فإن المعلم هو مربِّي الرجال … وصانعُ الأجيال، فإن حسُنت صنعتُه أخرجَ للأمةِ أجيالاً تُوقظُها من غفوتها .. وتُنبِّهُهامن غفلتها .. وتنهضُ بها من رقدتها، وهذا – في الواقعِ – يقضُّ مضاجع مؤسسات الحكم في كلّ عصرٍ وآن، فهم يريدون قطيعاً من الأغنام .. يسوقُونه كما يريدون .. ويفعلون به ما يشَاءون، لذلك أهانوا المعلم واحتقَروه .. وفي وسائل إعلامِهم العفنةِ حطُّوا من قدره وشوَّهوه، ولو أرادوا بالأمةِ خيراً.. لرفعوه فوق الرؤوس وأكرَموه!!.
وعندما تنظُرُ حولك تجدُ أثر ذلك واضحاً جلياً في أجيالٍ تاهَت في ظلماتِ الجهل، وضاعت في دروب الحياة، لا تعرف غدها من يومِها .. ولا يومها من أمْسها، فأكثرهم كالأنعامِ بل هم أضلٍّ سبيلاً .. وما حدث ذلك إلا بعد أن أُهين المعلم، وأصبح مثارَ سخرية على شاشات الخزي والعار .. والكذب والشَّنار، ويوم أن أحوَجوه إلى أن يريقَ ماءَ وجهه على عتباتِ البيوت، من أجل أن يعيش كما يعيشُ الناس، ثم بعدَ ذلك يلومُوه .. وبألسنتِهم الخبيثةِ يهاجِموه، وبقلوبِهم الحاقدة لا يرحموه، وهو في الحقيقة كان ينبغي أن يكونَ سيداً في قومه، يرفعونه إلى أعلى الدرجات، ويسجّلُ اسمه في سجلِّ الخالدين .. وتُحفرُ أعماله في قلوب الأجيالِ جيلاً بعدَ جيل .
وكان من أثر هذا الواقع المرير أن رأينا طلاباً على معلميهم يعتدون .. ومنهم يسخرون !!
وبالأمس عُثِر على معلم مصري – يعملُ في أحد المدارس الأهليه -منتحراً، وذلك في مدينة سيهات الواقعة شرق المملكة العربية السعودية، وهو حدث مؤلم للغاية، وله دلالات سيئة، لعل أهمها حالة المعاناة التي يعيشها المعلمون، فهم يعانون من رواتب هزيلة لا تتناسب مع حجم العطاء الذي يقدموه .. ولا الجهد الذي يبذلوه .
إضافةً إلى الضغوط الاقتصادية التي تنتظرهم خلال الأشهر القليلة القادمة، فهم في أوطانهم مهملون .. وفي غربتهم مهانون !
ويحقّ لي أن أتساءل : لماذا خرج هذا المعلم من بلده ؟
إنّه العوز والحاجة وقلة ذات اليد، وتردي الأحوال الاقتصادية في بلده !!
وياليت الأمر يقتصر على تردي أحوال المعلمين الاقتصادية لكن الأدهى والأمرُّ تجاهلُ النّاس فضلَهم .. ونسيانُ الكثيرِ دورَهم، إضافة إلى التهديد الدائم لهم بقطع أرزاقهم !!
ولا أدري هل نسي هؤلاء الذين يحاربون المعلم قولَ الشّاعر الذي يتحدث فيه عن دور المعلم :
أخرجت هذا العقلَ من ظلماته ..
وهديته النّور المبين سبيلا
ونسوا كذلك قولَ الشّاعر :
إذا نفذَ الصبرُ عند الحكيم ..
فصـبرُ المعـلم لا ينفدُ
يكدُّ ويكدحُ في دروسه ..
ويشقى وطلابه تسعدُ
ويسهرُ في فحصِ ما دوّنوا ..
وهم في أسِرَّتهم هُجدُ
غنيٌّ ولـكن بعرفـانه ..
وإن كان في عسره يرعدُ
ألا فاذكروا فضله دائماً ..
ففضلُ المعلم لا يُجحدُ
وعندما يقعُ مثل هذا الحادث فإنّ على الجميع أن يقفوا موقفاً نبيلاً فيه شيء من المراجعة للنفس، يبحثوا عن أسبابه .. ويعملوا جاهدين على نزع فتيل المحنة التي تحيط بالمعلم من كل جانب، ويبذلوا جهودهم ليخففوا الضغوط التي تمارس عليه .
ومما أحزنني أن أجد البعض – للأسف الشديد – اتَّخذ من هذا الحادث البشع مادةً للتندّر والسّخرية !!
والذي يجبُ أن يُقالُ في هذا المقام أنّ حصونَ المعلمين مهددةٌ من داخلها .. كما هي مهددةٌ من خارجها، حيثُ يقعُ المعلمُ بين المطرقة والسندان، مِطرقة أنظمة تحاربه، وتسلط عليه إعلاميين فسدة لينالوا منه، وسندانِ القائمين على شؤونه، الذين لا يعبؤون بمشكلاته وهمومه، فيضيع حقه .. ويصبحُ في المجتمعِ مهاناً .. وهو الذي ينبغي أن يعيشَ فيه إنساناً !!
لكن هذا الحالَ لن يدوم .. وسيعود المعلم شامةً كما كان.. وسيعرف قدرَه من كانوا قبَل أن يُعلِّمَهم جاهلين .. وعلى يديه أصبحوا علماء ومفكرين، ثم نسوا يوم أن كان المعلم يحنو عليهم ليعلِّمهم من جَهالة .. ويغرس فيهم القيم ليخرجهم من عمى الجهل إلى نور العلم، وتشرق شمسُ عطائه في نفوسهم .. وينير قمرُ تضحياتِه ظلامَ قلوبهم !!
فهؤلاء لن يضرَّ المعلمَ فعلُهم وقبيح نكرانهم.. وليعلمَ الجميعُ أنَّ قدرَ المعلمينَ عند الله معلوم .. ما داموا يؤدون عملهم مخلصين .. ومن حظوظِ أنفسهم متجردين، وإن صنيعهم وحسنَ عملهم وأثرِهم لن تمحُوه الأيامُ ولا السنون !!!!!