اهبطوا مصر آمنين سالمين وللسلام فاعلين

بقلم أيقونة الاتزان / السفير د. أحمد سمير
في اليوم الذي أعلن فيه البيت الأبيض أو بالأحرى “البيت الرمادي” بعد كثرة الحروب في الشرق الأوسط عن توقيع وثيقة وقف الحرب في قطاع غزة، كانت الشمس تسطع على شاطئ شرم الشيخ كأنها تبارك، على استحياء، هذا الحدث الذي استغرق عامين من حرب الإبادة الجماعية والوحشية التي ترتكبها قوات الإحتلال الإسرائيلي بمشاركة أمريكية وبدعم غربي ، وصدر خلال العامين 74 قرارًا أمميًا لم يُنفَّذ منها قرارا واحدا واستخدمت أمريكا الفيتو اكثر من مرة لعرقلة صدور قرارات تدين اسرائيل وتطالب بوقف الحرب.
جلس الرئيس الأمريكي السابق والعائد دونالد ترامب ببدلة جديدة على كرسيه الذهبي يوزع الابتسامات كأنه فتح “منتجعًا للسلام الشامل”
أما مصر، فكانت الحاضرة عقلاً وقلبًا وكرامةً منذ اليوم الأول كانت القاهرة هي “الوسيط الذي لا ينام”، لا لأنها تملك عصًا سحرية، بل لأنها تدرك أن نار غزة إذا اشتعلت سوف يصل لهيبها إلى كل الدول العربية وربما أبعد من ذلك
لذلك، عندما أعلن المتحدث الرسمي المصري أن الاتفاق تم بعد مفاوضات ماراثونية، صفق قادة العالم… لا فرحًا، بل لأنهم لم يصدقوا أنه ممكن أن يكون هناك اتفاقًا فعلاً.
أما في شرم الشيخ تغيّر المشهد؛ فالمكان الذي استضاف مؤتمرات المناخ ولقاءات “إصلاح الأرض” صار اليوم يستضيف محاولة “إصلاح الضمير”
حضر القادة من كل فجٍّ عميق، بعضهم جاء بقلبه وبعضهم أرسل مندوبه، أما نتنياهو فقد غاب كالعادة
غزة… من الرماد إلى العناوين
بحسب الإحصاءات الأممية الأخيرة، بلغت خسائر قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة أكثر من 70 مليار دولار وهي فقط الخسائر المباشرة الأولية، ووفقا للمكتب الإعلامي، فقد ألقت القوات الإسرائيلية نحو 125 ألف طن من المتفجرات على القطاع، مما أسفر عن تدمير شبه كامل للمباني والمنشآت الحيوية والتي قدرت ب 90% من البنية التحتية.
وأيضا ووفقاً لوزارة الصحة في القطاع قُتل أكثر من 67 ألف فلسطيني في غزة، ثلثهم دون سن الثامنة عشرة، فيما تجاوز عدد الجرحى والمفقودين نصف مليون إنسان ومع ذلك، بقي القطاع الصغير الذي لا تزيد مساحته عن 365 كم² أكبر من كل الجيوش في الصمود
قال أحد المسؤولين الغربيين: “لقد أثبتت غزة أن الحديد يصدأ، لكن الإرادة لا تصدأ”
مصر… الدبلوماسية حين تتحول إلى صبر أيوب
لعبت مصر الدور الأهم: فهي التي جمعت الأطراف المتنازعة، وحافظت على خيوط الاتصال، ونسّقت مع الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وقطر، وتركيا، وحتى مع من لا يعترف بوجود غزة أيضا.
التغيير الجوهري في هذه المفاوضات أن القاهرة لم ترفع شعار “السلام خيار استراتيجي” كما في الماضي، بل قالتها بلغة أكثر واقعية: “السلام ضرورة أمن قومي، لأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا هم ما في قلوبهم وأفكارهم وأولويات المصالح الشخصية والانسانية”
لم يكن توقيع الاتفاق في شرم الشيخ صدفةً؛ فالمكان الذي يطل على البحر الأحمر بدا كأنه شاهدٌ على التاريخ من موسى إلى ترامب، من انشقاق البحر إلى انشقاق الخرائط، ومن “اضرب بعصاك البحر” إلى “اضرب بقلمك الورقة”
وهكذا، انتهت الحرب رسميًا، وبدأ السلام نظريًا
ففي الشرق الأوسط، السلام يُوقَّع دائما على الورق بحبر مائع السيولة يأخذ وقتا طويلا قبل أن يجفّ
لكننا، كعادتنا، سنفرح سنغني “وكسبنا القضية”، وسنكتب على اللافتات “الشرق الأوسط الجديد”، إلى أن تطير أول طائرة مسيّرة وتذكّرنا بأن الجديد معهم … قديم في ثوب حديث.
في مشهد الختام، وقف ترامب أمام الكاميرات مبتسمًا، وقال:
“لقد أعادت هذه الاتفاقية الأمل للمنطقة”
ضحك الجميع وتبادل الجميع القبلات والتحيات وخرج الجميع وانطفأت الأنوار
لكن المخرج نسي أن يكتب في نهاية المشهد: يُعاد بثّ الفيلم عند أول قصفٍ قادم.
السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية








