أراء وقراءات

بناء الإنسان المصري .. حجر الأساس لنهضة الأمة

بقلم: مدحت سالم 

إن بناء الإنسان هو أعظم مشروع تنموي يمكن أن تتبناه أمة تسعى نحو النهضة والريادة وإذا أردنا الحديث عن بناء الإنسان المصري تحديدًا فإننا نتحدث عن إعادة صياغة الفرد الذي هو اللبنة الأولى في صرح المجتمع وأساس قوته وصلابته فمصر ليست مجرد بقعة جغرافية وإنما هي تجسيد للروح الإنسانية الساعية للخلود والبقاء منذ آلاف السنين

لقد علّمنا التاريخ أن الأمم العظيمة لا تُبنى إلا بأفراد عظماء يحملون على عاتقهم مسؤولية البناء والتعمير ولعل أول خطوات هذا البناء تبدأ من الداخل كما قال الله تعالى في كتابه العزيز (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) فالتحول الحقيقي يبدأ من النفس ومن الإرادة التي تتفجر من أعماق الفرد ليصبح أداة للتغيير الإيجابي

تجارب الأمم في تحقيق النهضة

إذا تأملنا تجارب الأمم التي استطاعت تحقيق النهضة والتقدم نجد أن بناء الإنسان كان دائمًا في صلب استراتيجياتها فالتاريخ مليء بالنماذج التي يمكن أن تلهمنا في مساعينا لبناء الإنسان المصري لتطويره روحيًا وعقليًا وجسديًا وفيما يلي نستعرض بعض التجارب الرائدة التي يمكن أن تشكل مرجعية ملهمة لنا علي سبيل المثال لا الحصر :-

1- التجربة اليابانية: إرادة لا تعرف الانكسار

اليابان تعد نموذجًا يُحتذى به في كيفية النهوض من رماد الهزيمة بعد الحرب العالمية الثانية استثمرت اليابان في الإنسان كعنصر أساسي في عملية إعادة البناء إذ ركزت على التعليم كوسيلة لتعزيز القدرات الإبداعية والابتكارية واعتمدت فلسفة الكايزن التي تعني التحسين المستمر كقاعدة حياتية في التعليم والعمل يقول الباحث الياباني ماساكي أي أن (( الكايزن هو مفتاح النجاح التنافسي لليابان ))

لقد اهتم اليابانيون بتنمية أخلاقيات العمل والانضباط وأعطوا الأولوية للقيم المجتمعية التي تعزز التعاون والتضامن مما جعل الإنسان الياباني قادرًا على تحقيق المعجزات العلمية والصناعية

2- التجربة السنغافورية: من المستنقعات إلى القمة

سنغافورة التي كانت في منتصف القرن العشرين مستعمرة فقيرة مليئة بالمستنقعات استطاعت خلال عقود قليلة أن تتحول إلى واحدة من أقوى اقتصادات العالم ويرجع ذلك إلى الرؤية الاستثنائية لزعيمها لي كوان يو الذي ركز على بناء الإنسان السنغافوري من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب المهني وإعلاء قيم النزاهة والعمل الجاد

يقول الزعيم لي كوان يو (The quality of a nation depends on the quality of its people) أي (( أن جودة الأمة تعتمد على جودة أفرادها )) وقد أدركت سنغافورة أن الإنسان المتعلم والمنضبط هو العامل الحاسم في تحقيق التنمية والازدهار.

والتجارب من حولنا في هذا الأمر عديدة

وبما أن الإنسان المصري يحمل في داخله إرثًا حضاريًا يمتد عبر آلاف السنين ولكنه في الوقت ذاته يواجه تحديات الحاضر التي تتطلب منه توازنًا دقيقًا بين الأصالة والمعاصرة وكما قال جبران خليل جبران الأديب اللبناني (( الأمم لا ترتفع إلا بمقدار ما يرتفع به أفرادها)) فإن رفعة مصر مرهونة بقدرتها على خلق جيل جديد يجمع بين حكمة الماضي وابتكار الحاضر

أبعاد أساسية لبناء الإنسان المصري

وفي هذا السياق يمكننا أن نستعرض ثلاثة أبعاد أساسية لبناء الإنسان المصري وهي البعد الروحي والبعد العقلي والفكري والبعد الجسدي

– البعد الروحي

يتمثل في تهذيب النفس والارتقاء بها لتصبح في مقامٍ يليق برسالتها في الحياة يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فالأخلاق هي أساس البناء الروحي وهي ما يجعل الإنسان قادرًا على مواجهة تحديات الحياة بقلب ثابت وروح نقية ولعل كلمات الصوفي الجليل ابن عطاء الله السكندري تصدح في هذا المجال حين قال (( إذا فتح لك باب القرب فلا تبالِ وإن أغلق فلا تجزع فرُبّما يكون ذلك عين الفتح )) مما يعكس أهمية الصبر والتأمل في مسيرة بناء الروح

– البعد العقلي والفكري 

يتجلى في تنمية المعرفة والفكر وإطلاق العنان للإبداع والابتكار يقول الفيلسوف اليوناني سقراط (( التعليم هو إشعال الشعلة وليس ملء الأوعية )) فالتعليم الحقيقي هو الذي يُثير في النفس شعلة الفضول ويزرع فيها حب التعلم والمعرفة إن بناء العقل المصري يتطلب منظومة تعليمية تتبنى التفكير النقدي وتشجع البحث العلمي وتغرس القيم الإنسانية التي تجعل الإنسان قادرًا على المساهمة الفعالة في بناء مجتمعه

– البعد الجسدي 

لا يقل أهمية عن البعدين السابقين فالإنسان القوي جسديًا يكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات والقيام بمسؤولياته في الحياة وقد ورد في الحديث الشريف (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف )) كما أن الرياضة البدنية هي جزء لا يتجزأ من بناء الإنسان المتكامل يقول أرسطو الفيلسوف اليوناني (( أننا نصبح ما نمارسه باستمرار ))  ولذا فإن التفوق هو عادة وليس مجرد فعل مما يعكس أهمية الاستمرارية في العناية بالجسد كجزء من مسيرة بناء الذات

وفي سياق التجارب الشخصية فإن الإنسان الذي يمر بتحديات الحياة يكتسب خبرات تجعله أكثر قدرة على مواجهة مصاعب المستقبل وكما قال المفكر الهندي المهاتما غاندي ((  أي أن القوة لا تأتي من القدرات الجسدية بل من الإرادة التي لا تُقهر )) وهذا ما يجب أن يكون عليه الإنسان المصري إرادة لا تعرف المستحيل وقلب يفيض بالإيمان والثبات.

مسؤولية جماعية

إن بناء الإنسان المصري هو مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع بمؤسساته المختلفة كما تتطلب رؤية شاملة تستثمر في الفرد كأهم موارد الأمة وكما قال طاغور الشاعر الهندي ( ( أن كل طفل يأتي برسالة أن الله لم يفقد الأمل في الإنسان )) ولذا فإننا جميعًا مدعوون للعمل على بناء أجيال تحمل مشعل النور وترسم لمصر مستقبلًا يليق بها

وفي النهاية علينا أن نتذكر أن مصر كانت وستظل دائمًا قلب العالم وحضنه الدافئ وإن بناء الإنسان المصري هو السبيل الوحيد الذي يمكننا من كتابة فصل جديد في تاريخها المشرق يقول نيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا (( أن التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم  ))وهذا هو ما نحتاجه اليوم لتغيير الواقع وصنع المستقبل.

إدمان التشتت الرقمي واستلاب العقل البشري 2

مدحت سالم 

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.