الفن والثقافة

بيتٌ على الأطراف 

قصة قصيرة بقلم / حاتم السروي

“الباحث عن الذات” هكذا أعرف نفسي لكل من يسأل عني، فلا أتكلم عن منصبي الذي وصلت إليه عن جدارة قبل الأربعين، ولا أتكلم عن والدي الذي كان أستاذًا لعلوم الأحياء الدقيقة، ولا أتكلم عن أبنائي الثلاثة فهم جزءٌ مني وأنا أبحث عن ذاتي بهم وفيهم. كل ما أذكره أنني الباحث، فالحياة رحلة بحث، والبحث حياة بغير شك.

إنها عملية شاقة ولا زلت في مراحلها الأولى وأحسب أنني سوف أقضي عمري كله في أتونها، مع أنني أصبحت مديرًا لشركة صناعية لها وزنها في السوق، لكن ذات الإنسان أعمق من رصيده في البنك ومن مسكنه الأنيق، هذا إن كان له رصيدٌ ومسكن، أما إذا كان يبحث عن لقمة عيشه ويستطيع فقط أن يوفر قوت يومه، فإنه….. لا شك يبحث عن ذاته أيضًا، هذا ما تعلمته، وتلك هي حصيلة تجربة صعبة كان لي أن أخوض غمارها منذ مطلع الشباب، كيف بدأت وإلامَ انتهت؟ سوف أطلعكم على الغيب، غيبي أنا فلا أملك سواه طبعًا.

لقد علمني أبي أن أترك غرفتي في بيتنا الواسع الذي يرقد في هدوء وسط الحدائق الغناءة على أطراف القاهرة. علمني أن أترك أطراف القاهرة وأعتصر عرقًا في وسطها. قال لي بالحرف الواحد: ” عليك أن تنسى كل شيءٍ مر بك منذ ولادتك، في معركة الحياة أنت أعزل إلا من جهدك الخاص، انزل وجرب واصطدم. سوف تتهم بالبلاهة وضعف الحيلة. سوف يهجرك أصدقاؤك. سوف تبحث عن نصفك الآخر ولن تصل إليه إلا بعد سنوات من التعب والألم، سوف يمقتك جميع من تعرفهم ثم يتوجوك ملكًا عليهم ذات يوم. لا تبتئس ولا تركن إلى راحة اليأس، إنها رفاهية لا يعرفها إلا الكسالى، والآن سوف أهجرك أنا أيضًا عامًا كاملًا، وهذا قلبي أطَؤه أمام عينيك”.

تركني في شقة ٍ من غرفةٍ واحدة وحمام كان يسكن فيها أيام شبابه، وطلب مني أن أتألم كما تألم هو، وأخبرني أن الألم يصهر المعادن، وهل الناس إلا معادن؟؟ فإذا كنت ذهبًا فسوف تصقلك ألسنة اللهب، وإذا كنت نحاسًا فلا حاجة لي بك.. قالها وانصرف ولم يسمع توسلاتي، لم يلق بالًا لوجاهة المنطق ولا رحمة الأبوة، حتى رقم هاتفه المحمول غيره في سرعة البرق، وهاتفنا الأرضي لم يعد يرن في أذني كعهدي به منذ طفولتي.

كان هذا بعد تخرجي مباشرةً من كلية الهندسة، وترك لي أبي مبلغًا لا يزيد عن ثلاثة آلاف جنيه، وليس سرًا أنني فرحت في البداية، ونعمت أيامًا بحريتي، وإن تسألوني عن ذكرياتي فلا زلت أذكر (مقهى عمر الخيام) الذي كنت أرتاده كل يومٍ في الضحى، وفي الليل إذا سجى، حتى حفظ وجهي صاحب المقهى وعماله! كنت أقبل على التنباك في نهمٍ واضحٍ لا أبذل جهدًا في إخفاءه، كل همي أن أستمتع بهذا النوع من الدخان، وهو نوعٌ غير مألوف عند كثيرين، وإن كان يعرفه جيل أبي، وكان جدي يحبه مثلي.. في الحقيقة أنا الذي مثله.. إنها الجينات!.

وأذكر أيضًا حديقة الأندلس وكوبري قصر النيل، والزمالك وما أدراك ما حي الزمالك. ومضى شهرٌ بتمامه، وأصبحت خاويًا ليس فقط من المال بل من الأفكار أيضًا، ثم رجعت لأبي في بيته الكلاسيكي ذي الواجهة الأوروبية التي تملأ النفس بهاءً. وجدته يقرأ الجريدة ويرتشف القهوة الغامقة، ابتسمت له في بلاهةٍ وقلت: الفلوس خلصت… وضع الجريدة في هدوء ورفع بصره إليَّ ثم قال: “امشي يا ابن الـ…..” ساعتها تمنيت لو صفعني كفًا فهذا أفضل من الكلمة التي جعلتني كالعاري في ميدانٍ عام والشمس في الظهيرة تلهب سوأتي أمام البشر.. وحاولت أن أقول شيئًا فلم أجد إلا عم رجب البواب وهو يحملني بذراعه الصعيدي ويلقيني في الشارع كمن يلقي بالقمامة، والأدهى والأمر أنني سمعت الجيران يتهامسون عني ويقول أحدهم للآخر أنني أدمنت الهروين فعاملني أبي بهذا الطريقة!.

ورغم حداثة سني وخفة عقلي لكن روحًا علوية كانت معي، وحتى لا تظنوا بي سفاهةً ولا أظهر من مدعي الولاية فأنا أخبركم أن هذه الروح معكم أيضًا، إنها الروح التي أفهمتني أن أبي يحبني بعنف، يحبني حتى أنه خاف عليَّ من الترف، خاف أن أخرج للحياة رخوًا، فتركني في الحواري كما كان العرب يتركون أبنائهم في البادية حتى يشتد عودهم ويفصح لسانهم ويكتسبون من هواء البادية مناعةً من أمراض الحضر.

وعدت إلى أبي وأنا موظف في شركتي التي صرت فيها الآن مديرًا. فرصة مناسبة وجدتها بعد لأْي. ثم لم ألتفت إلا إلى مستقبلي، وتحملت كل شيء، ضياع الفرص والرسوب في اختبارات العمل التي يجريها موظفو الموارد البشرية، ضغط العمل وغباء المديرين وعقد النقص..إلخ.

عملت في كل الظروف وكنت أغالب أحزاني إذ حزنت أو شعوري بالملل إذا سئمت، وتعلمت الصبر على المكاره والترفع على الصغائر، وإن تسألني كيف وصلت؟ أخبرك أنني تركت نفسي للدنيا تغسلني وتكويني ثم تجعل مني مديرًا.. هل اخترعت جديدًا؟ تلك هي الحياة. ولا زلت أبحث عن ذاتي وأسعى نحو الأفضل.. هذا هو الإنسان..

 

حاتم السروي كاتب وقاص ومسئول خدمة المؤلف بالهيئة المصرية العامة للكتاب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.