بقلم: د. أمين رمضان
“هذه مجرد تأملات شخصية، ليس الهدف فرضها على أحد، أو إثبات أنها الحق، لكنها دعوة للآخرين لتحفيز آلة التأمل الشخصي عندهم، بعيون عالمهم هم لا عالم غيرهم”
مع المسحراتي من جديد، وهو يشدوا بثلاث رموز كان لها أثر بالغ في الحياة الأدبية والفنية والسياسية في مصر.أحمد شوقي أمير الشعراء، وسيد درويش الفنان العبقري، ومصطفى كامل الرمز الوطني، وكأنه يرسم لوحة وطنية حية بنبض الوطن.
تناولنا في المقالين السابقين شخصية أمير الشعراء أحمد شوقي، وفنان الشعب سيد درويش واليوم نتناول رمز وطني شدا به المسحراتي وهو الزعيم مصطفي كامل، الذي لم تكن ثقافته الفرنسية تحدثاً وكتابة وخطابة بطلاقة حاجزاً أمام وطنيته، بل إنه استفاد من تلك القدرات ليتحدث عن قضية مصر الكبرى في المحافل الأوروبية، وهي التخلص من الاحتلال الإنجليزي، الذي كان يستنزف خيرات مصر لتصب في خزائنه، فمصر مليئة بالخيرات، موقعاً، وموارد طبيعية.
وأرى أن هذا الاستعمار مستمر حتى الآن، مع كل الدول الغنية بالمواد الخام، كالبترول والثروات المعدنية والكاكاو والمطاط وغيرها، البترول مثلاً، اكتشافه وإنتاجه وتكريره يتم بتكنولوجيا متقدمة ومكلفة، لا تمتلكها هذه الدول، بل إنهم محرومون من امتلاكها، ليظل الاحتلال موجوداً تحت اسم جديد براق “حق الامتياز”.
وطبيعي أن تستعين هذه الدول بمن يمتلك التكنولوجيا التي لا تمتلكها، لكن يجب أن تكون هذه الاستعانة وفق برنامج إحلال الكوادر الأجنبية بكوادر وطنية، مهما طال الزمن، وهذا من معاني الوطنية، وليست الوطنية أغاني حماسية ليس لها في الواقع وجود.
كانت الطامة عام 1906م وهي حادثة دنشواي، أرسلت كتيبة إنجليزية من مئة وخمسين فرداً من القاهرة إلى الإسكندرية وفي الطريق نزلوا للاستراحة. سأل خمسة ضباطٍ عبد المجيد سلطان كبير ملاك المنطقة عن مكانٍ لصيد الحمام، فدلهم على دنشواي المشهورة بكثرة حمامها، حيث كان الحمام يتجمع عند أجران الغلال لالتقاط الحب وهي أبراج مخروطية تُخزّن فيها غلال الموسم كله.
ما يؤخذ من مجموع مصادر متعددةٍ أن إمام مسجد القرية حسن محفوظ أقبل صائحاً بهم كيلا يحترق التبن في الأجران ويأخذوا حذرهم لوجود النساء والأولاد، لكنهم لم يفهموا ما يقول وأطلق أحد الضباط عياراً أخطأ هدفه وأصاب «أم صابر» زوجة مؤذن المسجد، فوقعت عن الجرن وماتت في الحال، واشتعلت النار في التبن. هجم الإمام على الضابط يجذب البندقية منهُ ويستغيث بأهل البلد صارخاً: «الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن. الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن».
تجمهر الأهالي فيما هرع بقية الضباط لنجدة زميلهم، وعلم العمدة فأرسل في الحال شيخ الخفر (أو «الغفر» بالعامية) وخفيرين لإنقاذ الضباط، وفي خضم الهلع من الطرفين توهم الضباط بأن الخفراء سيفتكون بهم فأطلقوا النار وقتلوا شيخ الخفر. هاج الأهالي أكثر وحملوا على ثلاثة ضباط بالطوب والعصي. الكابتن بول قائد الكتيبة وطبيبها- هربا عدْواً نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلا قرية سرسنا حيث وقع الكابتن طريح الأرض وما لبث أن قضى نحبه من ضربة شمسٍ بحسب تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي.
وأما الطبيب فركض إلى المعسكر واستصرخ الجند فأسرعوا إلى الكابتن فوجدوه ميتاً وقد تجمع حوله بعض أهالي سرسنا الذين فروا لما رأوهم، فاقتفى الإنجليز أثرهم وقبضوا عليهم إلا واحداً هرب قبل أن يُشدّ وثاقه واختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض فلحقه الإنجليز وقتلوه شر قتلة، (في رواية أخرى أنهم رأوا شاباً محنياً على الكابتن يريد إسعافه بشربة ماءٍ فأقبلوا عليه بالحراب طعناً حتى قضى نحبه).
وعقدت محاكمة صورية، مثل العديد من المحاكمات الصورية، التي يعقدها الممسكين بزمام القوة، بعد أن يغلفوها باسم جذاب وبراق “محكمة الشعب” كما حدث أيام عبد الناصر، وحكمت المحكمة في دنشواي بالشنق على 4 من الفلاحين، وتدلت من أحبال المشانق أجسادهم النحيلة من الظلم، وكأنها قطعة من طين الأرض، لأن الاحتلال لا يعرف إلا لغة السادة والعبيد، الشعوب المحتلة عنده خادم لطموحاته، والحرية لا وجود لها، والعدل غائب، خلف صور مزيفة في مسرحية سمجة، خالية من الكرامة الإنسانية.
فكانت حادثة دنشواي هي الوقود الوطني، في قلب رمز وطني مثل مصطفى كامل، أشعلت فيه روح الكفاح ضد المحتل الإنجليزي، لينصر قضية الحرية لمصر وطناً وشعباً.
وتسابق الشعراء والكتاب والصحافة إلى تخليد الحادثة، فكان من أثرها أن تبلور المقت الشعبي للاحتلال الإنجليزي ورفضه، وبقي يعتمل في نفوس المصريين ويشحنهم أكثر فأكثر حتى تفجر في ثورة 1919 العارمة.
قال شاعر النيل حافظ إبراهيم (تابع مدرسة الإحياء والبعث) في الحادثة:
قتيل الشمس أورثنا حياة وأيقظ هاجع القوم الرقود
فليت كرومر قد بات فينا يطوق بالسلاسل كل جيد
لننزع هذه الأكفان عنا ونبعث في العوالم من جديد
وقال أحمد شوقي (تابع مدرسة الإحياء والبعث):
يا دنشواي على رباك سلام ذهبت بأنس ربوعك الأيام
يا ليت شعري في البروج حمائم أم في البروج منيّة وحِمام؟
وللتأملات بقية بإذن الله…
الإثنين 3 أبريل 2023م – 12 رمضان 1444هـ