تأملات رمضانية (5): القيم والمادة
بقلم: د. أمين رمضان
“هذه مجرد تأملات شخصية، ليس الهدف فرضها على أحد، أو إثبات أنها الحق، لكنها دعوة للآخرين لتحفيز آلة التأمل الشخصي عندهم، بعيون عالمهم هم لا عالم غيرهم”
عندما كنت طالباً بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، وقرب نهاية السنة الدراسية، كان يدخل علينا أحد عمال القسم ومعه علبه من الورق، ليمر على كل طالب ماداً يده بالعلبة ليضع فيها الطالب ما تجود به نفسه، ثم يخرج شاكراً الجميع، المعيد الذي سمح له بذلك والطلاب الذين شكروه مادياً.
وبعد أن أصبحت معيداً، وجاء العامل أخذت منه العلبة وطلبت من العودة لحجرته، تكلمت مع الطلاب حاثاً لهم على مساعدته لمن يريد، تاركاً لهم كامل الحرية في المساعدة، وطلبت من أحدهم أن يأخذ العلبة ويمر على باقي الطلاب.
كان المبلغ الذي جمعوه معقولاً، شكرتهم وقلت للطالب اذهب إلى العامل واشكره باسم الطلاب وقل له هذه هدية منهم.
أيهما أهم في حياة الناس؟ القيم مثل العدل والحرية والكرامة والحلال والصدق وغيرها، وأعلاها قيمة الإنسان نفسه كإنسان .. أم المادة وهي الأشياء المادية التي يمتلكها الإنسان؟
ما هي الإجابة التي طرأت على عقلك لأول وهله؟
إذا كانت الإجابة هي القيم .. فاسأل نفسك .. هل فعلاً أعيش معلياً القيم على الأشياء في حياتي؟
وإذا كانت الإجابة بنعم فاحمد الله.
وإذا كانت الإجابة بلا .. فاسأل نفسك أيضاً .. لماذا؟
لن أجيب من عندي .. بل من عند الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ) .. حين يقول في الآية الكريمة:
﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة ٢٩]
إسمحلي عزيزي القارئ بالتوقف هنا عند (هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا)
واسأل نفسك .. إذا كان الله سبحانه وتعالى خلق لك ولي وللناس جميعاً كل ما في الأرض من مخلوقات .. من نباتات وحيوانات وثروات وبحار وأنهار وأمطار وغيرها مما لا يعد ولا يحصى، اسأل نفسك: هل يمكن أن يكون الإنسان أغلى مما خُلق له؟ أم ما خُلق له أغلى منه؟
بالتأكيد في الميزان الرباني الذي سيزن أعمالنا .. الإنسان أغلى من الأشياء .. ولعل المقصود بالإنسان هنا القيم الإنسانية وأعلاها قيمة الإنسان ذاته.
ولماذا يخبرنا الله سبحانه وتعالى بحقيقة قيمتنا في الكون؟
يخبرنا لنعلم أن ضلال البشر سيكون في قلب موازين القيم .. يعني .. عندما تصبح قيمة الأشياء أهم وأعلى وأغلى من قيمة الإنسان .. والسبب أن الإنسان في هذه الحالة سيكون عبداً لشهوات الامتلاك المادي بكل صوره وبلا حدود .. وعندها ستشتعل الحروب لينهب الأقوياء ثروات وحياة الضعفاء .. بل سيصبح الإنسان في حد ذاته سلعة تباع وتشترى .. وهذا هو حال العالم.. في كل زمان ومكان لا يكون الإنسان أعلى وأغلى من المادة.
حتى أقدس علاقة وهي الزواج .. ستتحول إلى جحيم يحترق بنار المادة .. ويحرق معه الإنسان ذاته .. في حرب مستعرة تحرق معها كل القيم الإنسانية النبيلة.
الصيام مدرسة لإعلاء القيم
لذلك كان الصيام مدرسة لإعلاء القيم على المادة، حين يدرب الإنسان على التحكم في ذاته حتى لا تسيطر المادة عليه .. وكل شعائر الإسلام تصب في هذا المعنى .. في جوانب متعددة وأبعاد مختلفة.
فالصيام يعلي من الإرادة الإنسانية لتقود الإنسان في الحياة مستعلياً على المادة وأنيابها في أقوى شهوتين الجنس والجوع.
والصيام يربي الإنسان على الرقابة الذاتية المرتبطة بأعلى صلة روحية، وهو الله سبحانه وتعالى.
والصيام يربي المجتمع على قيمة التكافل والتراحم، ويحوله إلى شعور جمعي، حتى وإن شذ عن ذلك التجار الذين يحتكرون المادة لأنهم فقدوا القيم وهزمتهم المادة وحولتهم لكائنات مفترسة بلا ضمير ولا شعور بالذنب، وهذا هو مصير من يقلب الموازين الربانية.
والصيام يعلي من قيمة الصدق مع الله، التي إن وجدت فعلاً ستظهر في الصدق مع الناس، ويسود السلام الاجتماعي.
وغير ذلك الكثير من القيم التي يمكن أن يقدمها شهر الصيام لكل من يسعى لاكتسابها.
القصة التي ذكرتها في البداية هي الفرق بين ذل المادة والكرامة الإنسانية.
اختصر فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله رحمة واسعه وأدخله فسيح جناته، كل ما سبق في جملة واحدة عندما قال:
(القيم مقدمة على أمر المادة، فإنسان في الحياة بلا قيم لا شرف له).
وللتأملات بقية بإذن الله…
الأحد 26 مارس 2023م – 4 رمضان 1444ه
القيم ما تعليه النفس وتكبره فإن كانت عليا فالأشياء دونها
وإن كانت دنيا فالأشياء فوقها وإذا حكمت الأشياء كانت الفوضى
وهنا يكون اختلاف البشر …. واختلاف الإجابات
قد أفلح من زكاها … الموضوع يحتاج عمل بعد الدعاء
اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها
بارك الله بكم دكتور وزادكم علماً