تأملات رمضانية (8): مظاهر رمضان الفاطمية المعاصرة
بقلم: د. أمين رمضان
“هذه مجرد تأملات شخصية، ليس الهدف فرضها على أحد، أو إثبات أنها الحق، لكنها دعوة للآخرين لتحفيز آلة التأمل الشخصي عندهم، بعيون عالمهم هم لا عالم غيرهم”
عزيزي القاري
الكثير مما نفعله هو عادات، تربينا وتعودنا عليها، وربما لم نسأل أنفسنا السؤال المهم وهو: لماذا نفعل هذه العادات؟
عندما يكون سياق الحديث هو شهر رمضان، فإن الخطر هو أن تحل هذه العادات والمظاهر الاجتماعية، محل الدين، بل تصبح هي الدين، وتتراجع أجواء رمضان الإيمانية، أمام الهجوم الكاسح للمظاهر الاجتماعية الموروثة والمستحدثة، خصوصاً عندما يكون الهدف منها محو الهوية الدينية من المجتمع.
الكثير من مظاهر رمضان التي نعيشها، دخلت على المصريين أيام الدولة الفاطمية.
كانت الدولة الفاطمية تتبع المذهب الشيعي، قامت أولاً في تونس ومصر، وحكمت مناطق في المغرب، السودان، صقلية، وبلاد الشام والحجاز من 5 يناير 909 هـ إلى 1171م.
بالغ الفاطميون في الاحتفال بشهر رمضان احتفالًا لم نسمع به في أي دولة من الدول الإسلامية، وكان ذلك كله دعاية ضد من اتهمهم بالخروج عن الإسلام، فكانت رسالتهم الإعلامية المضادة هي المبالغة في الاحتفالات على طريقتهم، لنفي التهمة عنهم.
فتح الفاطميون مصر علي يد جوهر الصقلي قُبيل حلول رمضان بأيَّام، ووضع حجر الأساس للجامع الأزهر في (14 رمضان 359هـ) وأقيمت الصلاة فيه لأوَّل مرَّة (7 رمضان 361هـ)، وكان وُصول الخليفة المُعز لدين الله للفسطاط مساء يوم 7 رمضان سنة 362هـ، حدثًا مميزًا حيث استقبله العامة بالفوانيس، ولعلّ هذا كان بداية الارتباط بين رمضان والفانوس.
كان استقبال رمضان من الأيام المشهودة في مصر الفاطمية، حيث كان الخليفة يسير في موكبه ممتطيًا جواده، ممسكًا في يمناه بعصا الملك متوجًا بعمامته الضخمة، رمز الوقار، وقد رصعت بأغلى وأندر مشغولات الياقوت والزمرد، يتوسطها هلال من الياقوت الأحمر تتوسطه جوهرة عظيمة، محاطًا بإخوته وبني عمّه، مترجّلين هم وكبار أمراء الدولة وأرباب السيوف وغيرهم، كل ذلك في حراسة خمسة آلاف فارس.. عدا جنود المشاة بطوائفهم المختلفة.
وربما يعود أصل موائد الرحمن في رمضان والتي يجتمع عليها الغني والفقير في شهر الكرم إلى ما كان يسمى في العصر الفاطمي “سماط رمضان”، وهنا ندع المجال للمؤرخ الشهير المقريزي ليحكي لنا عن سماط السلطان، والذي تطور اليوم إلى ما يعرف بموائد الرحمن، والتي يقيمها اليوم الموسرون، وأهل الإحسان.
يقول المقريزي: “فكان السماط يمدّ في (قاعة الذهب) بالقصر الشرقي الكبير في ليالي رمضان وفي العيدين …”.
ويسهب المقريزي في وصف الولائم الفاطمية الرمضانية العامرة فيقول: “ويهتم بذلك السماط اهتماما عظيمًا تامًا، بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة والأغذية الرائقة”.
عرف فانوس رمضان لأول مرة يوم دخول المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة قادمًا من المغرب في يوم الخامس من رمضان عام 358 هجرية، حيث استقبله المصريون استقبالًا حافلًا في موكب كبير للترحيب به، ولما كان المعزّ قد وصل ليلًا.. فقد حمل الجميع المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة وذلك لإضاءة الطريق إليه، وظلت الفوانيس مضاءة طيلة شهر رمضان، ومن يومها أصبح الفانوس رمزًا للشهر الكريم.
ويقول المؤرخون أنّ أول مسحراتي في الإسلام كان سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه، حين كان يطوف بشوارع المدينة المنورة مذكرًا بموعد السحور بصوته الندي، أما في مصر فقد كان إسحق بن عقبة يطوف بنفسه ليقود أهلها للسحور. أما الخلفاء الفاطميون فقد عهدوا بتلك المهمة إلى طائفة من الجند تتولى الأمر، إلى أن فكّر أحدهم في تخصيص فرد معيّن للقيام بتلك المهمة وسمّي بالمسحراتي، وبمرور الزمن ابتكر الخيال الشعبي عبارات متنوعة طالما سمعناها صغارًا على لسان المسحراتي، مثل “اصحى يا نايم وحّد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. ورمضان كريم” بصوت سيد مكاوي الشجي الذي افتقدناه في السنوات الأخيرة.. رحل سيد مكاوي ورحل فؤاد حداد الشاعر العظيم الذي كتب الكلمات، وغاب المسحراتي عن الشاشة، وعن الأجيال الصغيرة، وإن بقى في الوجدان.
وفي العصر الحديث أضافوا لتقاليد رمضان كل ما يفسد على الناس صيامهم، وانتشرت العدوى انتشار النار في الهشيم، لتنهار القيم أمام سهرات ليالي رمضان الراقصة، واحتفالات الفن العاري من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.
تجذرت العادات في أعماق المجتمعات، وحلت محل الغاية الحقيقية من الصيام وهي التقوى، عندما يصوم الإنسان عن الطعام والشراب والنكاح نهار رمضان، وتصوم جوارحه عن الحرام ليلاً ونهاراً.
رحم الله القابضين على دينهم.
وللتأملات بقية بإذن الله…
الخميس 30 مارس 2023م – 8 رمضان 1444هـ