تشكيل النظام الدولى والانتخابات

بقلم / محمد الهادى

عدداكبيرا من دول العالم  أواخر عام ٢٠٢٣ واوائل عام 2024 تتأهب وتستعد لانتخابات ما بين رئاسيه  مهمة من المقرر إجراؤها فى مصر  الولايات المتحدة وروسيا  إلى جانب انتخابات برلمانية فى إندونيسيا والهند وجنوب إفريقيا ستحدد نتائجها من سيقود هذه الدول  مستقبلاً، وبالتالى ستؤثر بشكل كبيرًا فى تشكيل سياساتهاالخارجية والداخليه

وتُعد هذه الدول محاور هامه وفاعله   المستوى الإقليمى والعالمى وكذا ستنعكس نتائج هذه الانتخابات كلها دون استثناء انعكاسًا كبيرًا على مستقبل إدارة الشؤون الدولية وبالاخص نتائج انتخابات الولايات المتحدة وروسيا على المستوى العالمي  وإنتخابات مصر والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا على نطاق جنوب العالم.

ونظرا لثقل دولتي امريكا وروسيا واثرهما القوى فى إعادة تشكيل النظام الدولى  سيتم تحليل الانتخابات فى الدولتين فى هذا المقال  وخاصة فى ضوء المخاوف التى أثيرت مؤخرًا بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، إما بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين الولايات المتحدة والصين، نتيجة لما تتبادله روسيا والولايات المتحدة من تصريحات تصادمية وحادة، إلى جانب تجدد التحذيرات من احتمال العودة إلى ديناميكيات الحرب الباردة.

و يذكر  أن المجتمعين الأمريكى والروسى يمران بعملية إعادة تشكيل جذرى لهويتهما السياسية فى القرن الحادى والعشرين، وهو تحوّل يتسم بمراجعة مختلف جوانب المشهد السياسى والاجتماعى والاقتصادى والأمنى بالدولتين، وإعادة تقييمه على نطاق واسع.

اولا بالنسبه للولايات المتحدة الامريكيه  :

فتشهد  تحولًا ملحوظًا فى المشهد السياسى، فلقد زادت بشدة نسبة الناخبين من أصل إسبانى ممن يتعاطفون مع التيارات السياسية اليمينية، ويدعمون شخصيات مثل دونالد ترامب، وكذلك حاكم فلوريدا رون ديسانتيس من الحزب الجمهورى، وغيرهما ممن يميلون إلى التطرف. وفى الوقت نفسه، تزداد ثقة وعزيمة الناخبين السياسيين ذوى الميول اليسارية ممن يدعون إلى سياسات أكثر تقدمية، مثل زيادة الدعم الاجتماعى للسكان المحرومين اقتصاديًا، واتخاذ مواقف أكثر انفتاحًا تجاه المهاجرين.

وتتوافق هذه الدائرة الانتخابية التقدمية إلى حد كبير مع الحزب الديمقراطى.

وفى هذا المناخ السياسى شديد الاستقطاب، يواجه الطرفان مخاوف بشأن الطريقة التى ينظر بها جمهور الناخبين على النطاق الأوسع إليهما، فالحزب الجمهورى يشعر بالقلق من أن يُنظر إليه باعتباره ممثلًا لليمين السياسى فحسب، فى حين يُحذر الحزب الديمقراطى من تصنيفه بأنه شديد اليسارية. لذا تتوقف نتائج الانتخابات فى الولايات المتحدة على الناخبين الوسطيين الذين لم يحددوا أمرهم بعد، وهو ما يدفع كلا الطرفين إلى التودد لهذه الفئة الديموغرافية الحاسمة. ونتيجة لذلك، يسعى كلا الحزبين إلى حمل رسالة وسطية، مع الحفاظ على قواعدهما الانتخابية الرئيسية، فالجمهوريون يقفون على يمين الوسط، مؤكدين التزامهم بالحد من دور الحكومة فى مختلف جوانب المجتمع، بينما يقف الديمقراطيون على يسار الوسط، منادين بدور حكومى أكثر قوة واستباقية فى توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، بما فى ذلك الرعاية الصحية، وسياسات الحد الأدنى للأجور، ودعم العاطلين عن العمل.

وتشغل أذهان المجتمع الأمريكى قضية مهمة أخرى تتعلق بدور الولايات المتحدة على الساحة العالمية، فهناك رغبة سائدة فى دعم الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، حيث يدعو البعض إلى تبنى دول أخرى قيم النظام الأمريكى، على المستويين الدولى والمحلى. وتنتقد هذه الفئة سياسات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على وجه الخصوص، وتشعر بقلق عميق إزاء النفوذ الاقتصادى المتنامى للصين باعتباره تهديدًا محتملًا.

ومع ذلك، يوجد تباين كبير بين رغبة المجتمع الأمريكى فى الهيمنة ورغبته فى تحمل المسؤوليات المرتبطة بأدواره الأمنية والسياسية العالمية. على الجانب الآخر، هناك قطاع من المجتمع الأمريكى أكثر براجماتية، يفضل اتباع نهج أكثر تعاونًا ونفعيًا مع الشؤون الدولية، حيث يعطى الأولوية للمصالح والعلاقات الوطنية القائمة على المنفعة المتبادلة مع منح استثناءات أقل، حيث يرى الولايات المتحدة كقوة اقتصادية كبرى قادرة على ردع التحديات العسكرية أو الاستجابة لها، دون تحمل مسؤوليات واسعة النطاق تجاه الآخرين، أو محاولة فرض نظامها الخاص على الدول الأجنبية. ويعكس التحول المتكرر فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مدى العقود الثلاثة الماضية- حيث صوّت الناخبون لشخصيات شديدة الاختلاف، بل ومتناقضة فى بعض الأحيانن هذا الخلاف داخل المجتمع.

ومن الواضح أن الولايات المتحدة اليوم تمر بصراع مع تحديات كبيرة، وتشهد فترة من التفكير والمراجعة. والجدير بالذكر أن الرمز الجمهورى الرائد اليوم، دونالد ترامب، الذى يُوصف بأنه مناهض للمؤسسات، قد اتُّخذت ضده إجراءات لعزله مرتين، مع احتمال توجيه تُهم عديدة له بحلول فترة الانتخابات. وعلى نحو مماثل، قدم الحزب الديمقراطى جو بايدن كمرشح رئاسى له، وهو خيار يتعارض مع التقاليد الأمريكية المتمثلة فى تفضيل المرشحين الأصغر سنًا والأكثر تواكبًا مع العصر فى الأغلب.

ثانيا روسيا :

فمنذ تولى ميخائيل جورباتشوف الرئاسة ودعوته إلى «البيريسترويكا» (أى إعادة الهيكلة)، التى أحدثت تحولًا جذريًا فى النظام الشيوعى المركزى، بدأ المجتمع الروسى فى التحرك نحو مسار المادية، والفردية، ومستوى أكبر من الحكم الذاتى. ولقد أدى هذا التحول فى البداية إلى ظهور نخبة اقتصادية صغيرة الحجم وفى الوقت نفسه فاحشة الثراء، مما شكّل المراحل الأولى من الإصلاح الاقتصادى فى عصر ما بعد الاتحاد السوفيتى.

وتلت ذلك مرحلة من إعادة التقييم، بُذلت خلالها الجهود لاستعادة الانضباط الاقتصادى والسياسى، مع الحفاظ على درجة من الانفتاح على الغرب وإعادة المركزية إلى الحكومة والحزب.

مر تطور علاقة روسيا بالمجتمع الدولى، وبالاخص  بالولايات المتحدة، بمراحل  وتطورات هامه  وشهدت هذه التحولات سلسلة من التحديات والتغيرات بدءًا من الإطاحة بميخائيل جورباتشوف

وحتى ظهور فلاديمير بوتين كرمز محورى فى السياسة الروسية وخلال السنوات الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى كانت هناك فترات من التفاهم وصلت إلى درجة العلاقات الودية، بين روسيا والولايات المتحدة، خاصة خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش الابن، ودونالد ترامب. غير أن هذه الفترات كانت استثنائية ولم تستمر طويلًا حيث عادة ما كانت تتبعها فترات من العلاقات المتوترة كما حدث أثناء ولاية أوباما وأخيرًا خلال ولاية بايدن الحالية.

وقد وصلت علاقات روسيا مع الولايات المتحدة فى الوقت الحالى إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق بسبب سلسلة من التحركات التى قامت بها الأولى، منها ضم شبه جزيرة القرم، والصراع فى جورجيا، وحرب أوكرانيا. ويمكن النظر إلى هذه التحركات على أنها جهود تبذلها روسيا لمواجهة ما تعده محاولات للهيمنة الأحادية من جانب الولايات المتحدة والغرب، وهى مشاعر أكدها الرئيس بوتين أثناء القمة الروسية- الإفريقية الأخيرة عندما أعلن أن عصر «العالم أحادى القطب قد انتهى»، وهو ما يعكس موقف روسيا من ديناميكية القوى العالمية الناشئة.

وبينما يختلف المشهد السياسى فى روسيا عن النظام الأمريكى، فإن فصول التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا اتسمت بالعديد من التناقضات والتيارات المتغيرة. وفى خضم هذه التغييرات الهائلة نهض اليمين القومى الروسى من جديد على نطاق أوسع، واكتسبت تيارات مختلفة داخل النظام السياسى زخمًا. وكان أحد أبرز جوانب هذه الديناميكيات هو الخلافات العامة داخل روسيا، حيث انتقدت رموز مثل شركة فاجنر العسكرية الخاصة (التى كان يتزعمها يفجينى بريجوجين) كبار القادة العسكريين فى البلاد علنًا. وأعقب هذا الصراع الداخلى تحرك عسكرى نحو موسكو بدا مسرحيًا، أطيح فيه ببعض القادة العسكريين الروس. ولكن المفاوضات بين بوتين وبريجوجين مكنتهما فى النهاية من الوصول إلى تفاهم يحمى قوات الشركة من المساءلة. وتدل هذه المؤشرات فى الواقع على أن المجتمع الروسى يمر هو الآخر بفترة من محاسبة النفس والمراجعة والتأمل، مع اختلاف ظروفه عن ظروف المجتمع الأمريكى. ومن خلال مقابلاتى مع بعض المعارف الروس اتضح أن حرب أوكرانيا قد فاجأت بعض الروس ممن كانوا يشعرون بالقلق إزاء العواقب المحتملة للسياسة العسكرية وأثارت حفيظتهم. ومع ذلك، يبدو أن المحاولات الغربية لعزل روسيا أو إضعافها كان لها تأثير كبير فى توحيد المواطنين، حيث حشدت العديد من الروس حول رئيسهم بوتين. وفى الوقت نفسه، قدم الصراع الأوكرانى دروسًا مهمة فيما يتعلق بحدود القدرات العسكرية الروسية وحقيقتها.

وسيؤدى الناخبون فى كل من الولايات المتحدة وروسيا دورًا محوريًا فى تحديد القيادة المستقبلية لبلديهما وهو ما سيؤثر بدوره تأثيرًا كبيرًاوواضحا  فى دورهما على الساحة الدولية. وبالرغم من أنه من السابق لأوانه التنبؤ بنتائج هذه الانتخابات، فإن الأحداث الأخيرة تقدم العديد من الرؤى الجديرة بالملاحظة منها :

الاضطرابات والانقسامات السياسيةو من أبرز المؤشرات على الاضطراب السياسى والتفكك المجتمعى فى روسيا والولايات المتحدة الاختيارات التى يواجهها الناخبون الأمريكيون بين مرشحين إما يمثلون الماضى أو يناهضون النظام السياسى، فضلًا عن قرار الناخبين الروس بشأن الرئيس الذى استخدم القوة العسكرية لمواجهة ما يراه بأنه تهديد يمثله «الناتو».

ايضا التحولات فى ديناميكيات القوة العالمية: ستواصل الولايات المتحدة الحفاظ على مكانتها بصفتها أقوى دولة فى العالم فى المستقبل القريب، بينما ستبقى روسيا فاعلًا قويًا ومؤثرًا. ومع ذلك، فقد صار جليًا يومًا بعد يوم أن أيًا من الدولتين لا تستطيع فرض رغباتها على نحو أحادى على الساحة الدولية. بينما تواجه روسيا، على وجه الخصوص، قيودًا تعوق وصفها بالقوة العظمى.

و ظهور التعددية السياسية أيضاً  حيث يتجه العالم نحو حالة من التعددية السياسية، حيث يتعين على الدول الكبرى أن تسعى جاهدة للحصول على دعم الدول المتوسطة والصغيرة وتعاونها من أجل تحقيق أجنداتها. وقد لا يستلزم هذا التحول بالضرورة التعاون والتكامل الكاملين، ولكنه يؤكد أهمية انخراط القوى الكبرى من أجل الحصول على دعم مواقفها وسياساتها من جانب حلفائها وشركائها من القوى الصغيرة والمتوسطة.

وبالنسبه  لامتداد فترة التغيير فتمر كل من الولايات المتحدة وروسيا بمراحل من التغيير الدولى والهيكلة الوطنية، من المرجح أن تمتد إلى المستقبل. وتوفر هذه الفترة بالتالى فرصًا للدول متوسطة الحجم وتلك المعتمدة على المشروعات والأعمال الحرة لإعادة تشكيل النظام الدولى ليصير أكثر تعددية.

اما بالنسبه لأهمية الانتخابات المقبلة فستكون نتائجها  فى دول مثل مصر والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا ذات أهمية بالغة، فرؤية هذه الدول للمستقبل وقدرتها على التعاون مع الآخرين فى جنوب العالم ستؤدى دورًا حاسمًا فى خلق صوت قوى وفعال لهذه المنطقة على المتسوى  الدولى والعالمى.

تشكيل النظام الدولى والانتخابات 1

محمد الهادي

كاتب صحفي

 

Exit mobile version