أراء وقراءات

تشكيل وعي الأطفال : بين الترفيه والتوجيه الخفي

بقلم – الدكتورة هناء خليفة

قد يبدو الأمر بريئًا…
طفل يمسك بجهازه اللوحي، يشاهد مقطعًا كرتونيًا ملونًا، يضحك ويتفاعل، ويبدو في حالة من الانسجام التام مع الشاشة.
لكن ما لا يدركه كثيرون هو أن هذا “الترفيه” السريع يُعيد تشكيل وعي الطفل، ويزرع فيه أنماط تفكير وسلوك ومفاهيم قد تستمر معه طيلة عمره.

في العصر الرقمي، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة للمتعة أو التعلم، بل أصبح بيئة معرفية ونفسية موازية، تدخل إلى الطفل من أوسع أبوابها: الصور، الصوت، التفاعل، واللغة البصرية.

حقائق علمية تكشف عمق التأثير

تشير دراسة نُشرت في مجلة Pediatrics الأمريكية عام 2022 إلى أن الأطفال بين عمر 5 و11 عامًا يقضون في المتوسط أكثر من 3 ساعات يوميًا أمام الشاشات، وأن 60% من المحتوى الذي يتعرضون له لا يخضع لرقابة تعليمية أو قيمية حقيقية.

كما أظهرت دراسة أخرى أجراها معهد Common Sense Media أن 70% من الأطفال الأمريكيين تحت سن 8 سنوات يستخدمون يوتيوب بشكل يومي، و40% منهم يشاهدون مقاطع لا تتناسب مع أعمارهم.

هذه البيانات تكشف حجم التأثير الهادئ، المتسلل، والمستمر على عقول الأطفال.

ما هو الوعي الذي يُصنع في عقول الأطفال؟

الوعي، ببساطة، هو طريقة إدراك الطفل للعالم من حوله: ما هو الصواب؟ ما هو الخطأ؟ كيف تُفهم العلاقات؟ من هو النموذج القدوة؟ وما معنى السعادة، النجاح، الخوف، أو القوة؟

في الإعلام الرقمي، هذه المفاهيم لا تُلقَّن بطريقة مباشرة، بل تُقدَّم في صورة رمزية مكررة ومُلفتة:
*البطل الوسيم دائمًا على حق.
*العنف يُكافأ أحيانًا بالضحك.
*الاستهلاك هو مصدر الفرح.
*النجاح مرتبط بالشهرة وعدد المتابعين.

إنها برمجة ناعمة تتسلل إلى الوعي دون استئذان، وتُشكّل العالم الداخلي للطفل من خلال التكرار والتأثير البصري.

كيف يتم التوجيه الخفي؟

١- خوارزميات المحتوى: المنصات مثل يوتيوب وتيك توك تختار للطفل ما يشاهده بناءً على التفاعل، لا الجودة أو القيم.
٢- الرسائل المبطنة: تظهر في قصص تبدو ترفيهية، لكنها تحمل رموزًا حول المال، الجمال، القوة، والعلاقات.
٣– النماذج القدوة: الأطفال يتأثرون باليوتيوبرز أكثر من آبائهم أحيانًا، ويقلدون سلوكهم دون إدراك.
٤– الإعلانات المموهة: كثير من المحتوى يبدو طبيعيًا، لكنه مليء برسائل استهلاكية خفية.

النتائج النفسية والسلوكية المحتملة

١– تشوش في الهوية: الطفل لا يميز بين الواقع والتمثيل.
٢– ضعف التركيز: المحتوى السريع يُضعف قدرة الطفل على الانتباه.
٣– الاندفاع العاطفي: تكرار الإثارة العاطفية يجعل الاستجابة انفعالية لا عقلية.
٤– تراجع القيم التربوية: لأن الإعلام لا يُعزز دائمًا الصدق، التعاون، أو التعاطف.

كيف يمكننا إعادة التوازن؟

١–  الرقابة الواعية: شارك طفلك في مشاهدة المحتوى، وناقشه.

٢–  اختر منصات تعليمية موثوقة: مثل National Geographic Kids أو AJ+ Juniors.

٣-  خصص وقتًا للمشاركة الواقعية: القراءة، اللعب، والأنشطة خارج الشاشة.

٤–  ازرع التفكير النقدي: علّم طفلك أن يسأل: هل هذا حقيقي؟ من يقف خلفه؟

٥-  كن أنت النموذج الأول: الطفل لا يسمع فقط ما تقول… بل يرى ما تفعل.

وعي الطفل مسؤوليتنا جميعًا

في عالم يُباع فيه الوعي في شكل فيديوهات، ويُبث في قنوات ترفيهية، لا بد أن نستعيد دورنا كموجهين حقيقيين لعقول أطفالنا.

فالطفل لا يحتاج فقط إلى محتوى ممتع، بل يحتاج إلى توجيه ذكي، يعرف كيف يحميه من أن يتحول من متعلم إلى مستهلك، ومن مفكر إلى متلقي سلبي.

وعي الأطفال اليوم، هو شكل المجتمع غدًا. فلنصنعه بوعي… لا بصدفة.

 

دكتورة هناء خليفة 

دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى