تقرير لرويترز : إيران ترسخ نفوذها في العراق بتوسعة العتبات الشيعية
خلال شهر سبتمبر الماضي قام قائد إيراني كبير بزيارة غير معلنة لواحد من أقدس المواقع عند الشيعة في مدينة كربلاء بجنوب العراق.
كانت الولايات المتحدة قد فرضت قبل شهور عقوبات على حسن بلارك أحد كبار الضباط في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بتهمة تهريب السلاح.
جاءت زيارة بلارك لتفقد مشروع إنشائي تتولى تنفيذه شركة يملكها مع آخرين من رجال الحرس الثوري تربطها صلات بالزعيم الإيراني الأعلى وهي مؤسسة تفرض عليها الولايات المتحدة عقوبات أيضا.
وسيؤدي مشروع التوسعة الذي تبلغ تكاليفه 600 مليون دولار في العتبة الحسينية إلى زيادة الطاقة الاستيعابية لأكبر موقع في العالم للزيارات الدينية السنوية لتتضاءل إلى جانبه أعداد الحجاج المسلمين إلى مكة المكرمة في السعودية. وهذه أكبر توسعة للعتبة منذ 300 عام.
وأرسل عامل في الموقع لرويترز صور بلارك وهو يضع على رأسه خوذة ويغطي وجهه بكمامة طبية زرقاء أثناء قياس درجة حرارته قبل دخوله الموقع. ولم تنشر وسائل الإعلام الإيرانية أو العراقية شيئا عن الزيارة التي أكدها موظف عراقي من العاملين بالمؤسسة.
ويقول عاملون إن بلارك وقادة آخرين في الحرس الثوري يشرفون على المشروع يترددون عليه دون سابق إخطار وتتولى الشركات الإيرانية والمهندسون الإيرانيون المتعاقد معهم حصريا لتنفيذ الأعمال المطلوبة اطلاعهم على التطورات في جولات سريعة.
وسبق تصوير قاسم سليماني قائد فيلق القدس الراحل الذي قاد استراتيجية إيران العسكرية والسياسية في مختلف أنحاء المنطقة خلال جولة قام بها في المشروع في 2018 قبل 18 شهرا من مقتله في ضربة أمريكية بطائرة مسيرة.
وقال مصدر إيراني في كربلاء إن إسماعيل قاآني الذي خلف سليماني في منصبه قام بزيارة غير معلنة للعتبة المقدسة بعد أسبوعين من زيارة بلارك.
وينهمك عمال إيرانيون ليلا ونهارا في ملء حفرة عمقها 40 مترا ومساحتها 50 ألف متر مربع بالأسياخ الفولاذية والأسمنت المستورد من إيران.
وستضم المباني متعددة الأدوار التي يعملون على إقامتها وحدات للوضوء ومتحفا ومكتبة. وسيتمكن ملايين الزائرين وغالبيتهم العظمى من الشيعة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي من الوصول إلى مرقد الحسين عن طريق نفق واسع.
وهذا هو أكبر مشروع تقود تنفيذه مؤسسة الكوثر المملوكة للحرس الثوري لتطوير السياحة الدينية في العراق وسوريا وهناك مشروعات أخرى في الطريق.
ولكتابة هذا التقرير قامت رويترز بخمس زيارات لموقع مشروع كربلاء وتفحصت المعلومات العامة المتاحة الخاصة بالعتبات والشركات المعنية وأجرت 20 مقابلة على الأقل مع عمال ومهندسين ورجال أعمال ومسؤولين دينيين وسياسيين من العراق وإيران.
ويكشف التحقيق كيف يحقق الدور الإيراني في السياحة الدينية قوة ناعمة لطهران ويعزز وجودها في المراكز الدينية العراقية التي تعد مركزا للنفوذ الشيعي الإقليمي.
كذلك يعمل التحكم في تطوير العتبات المقدسة على تعميق العلاقات التجارية كما أنه ينطوي على فرص اقتصادية لإيران. فالسياحة الدينية صناعة تدر مليارات الدولارات سنويا في العراق وهي ثاني أكبر مصدر للدخل في البلاد بعد قطاع النفط.
وقال وزير عراقي سابق مطلع على المشروع “صارت علاقة، وصارت توغل إيراني. دخلوا في الدولة العميقة. العلاقة العقائدية أكبر من العلاقة السياسية … (وهم) يستخدمون السياسة الناعمة جدا”.
وتمنح الحكومة العراقية المشروعات الدينية امتيازات خاصة منها إعفاءات جمركية على الأسمنت والصلب وغيرهما من المواد المستوردة من إيران.
وتقول عدة مصادر إن الكثير من البضائع يدخل العراق بدعوى تطوير العتبات ثم يباع في أماكن أخرى في البلاد. ولم تستطع رويترز التحقق من حجم هذه التجارة التي تسهم في التخفيف من أثر العقوبات الغربية المفروضة على إيران.
وتتولى لجنة إعادة إعمار العتبات المقدسة في إيران تطوير العتبات الشيعية. واللجنة شكلها الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي ويتولى إدارتها من يتم تعيينهم من الحرس الثوري.
وفي مارس آذار فرضت واشنطن عقوبات على اللجنة وعلى مؤسسة الكوثر جناح الأعمال الهندسية التابع لها في العراق. وكان بلارك من المسؤولين المستهدفين بالعقوبات.
وقال الأمريكيون إن اللجنة والمؤسسة متورطتان في تقديم “مساعدات مميتة” لفصائل تعمل لحسابها في العراق وسوريا وأنشطة استخباراتية وغسل أموال.
وقال متحدث باسم وزارة الخزانة الأمريكية لرويترز إن إيران تسعى لتوسعة نفوذها واستغلال قطاعي المال والأعمال في العراق.
وقد ندد خامنئي بالعقوبات الأمريكية ووصفها بأنها محاولة لتدمير الاقتصاد الإيراني والإطاحة بنظام الحكم في البلاد. وطلبت رويترز تعليقات لنشرها في هذا التقرير من الحكومة الإيرانية والحرس الثوري ومؤسسة الكوثر وبلارك لكنها لم تتلق ردا.
وقال مسؤول بالحكومة العراقية إنه لا يمكنه التعليق على أنشطة مؤسسة الكوثر في العراق لأنه ليس لديه تفاصيل وكرر هذا التصريح أيضا متحدث باسم الوقف الشيعي الذي يدير العتبات المقدسة.
وقال أفضل الشامي نائب الأمين العام للعتبة الحسينية المقدسة لرويترز إن الدور الإيراني ضروري لأن “الوضع الاقتصادي في العراق لا يستطيع أن يبني مثل هذه المشاريع الكبيرة. الشعب الإيراني شعب يحب الأئمة ويحب العراق ويريد أن يتبرع بأموال للعتبات المقدسة”.
وأضاف في مقابلة “عندما الأموال تنتقل عن طريق مؤسسة رسمية بالتأكيد هذا … قد يشكل دعما لها في الداخل، وفي الخارج دعم معنوي وإعلامي”.
* حتى المرايا إيرانية
أسست إيران نفوذا لها في العراق عقب الاجتياح الأمريكي الذي أسقط صدام حسين في 2003 ودفع بالأغلبية الشيعية إلى مقاعد الحكم خاصة الأحزاب التي تدعمها طهران.
وعمل الحرس الثوري على توسيع إمبراطورية الأعمال التابعة له في إيران ثم وسّع نطاق نفوذه في مختلف أنحاء العراق وفي سوريا ولبنان. وأنشأ الحرس الثوري ممرا لدعم حلفائه من الفصائل في مختلف أرجاء المنطقة والسيطرة على الحدود والتجارة البرية وتعزيز وجوده في المواقع الشيعية المقدسة.
غير أن محاولات الجمهورية الإسلامية لتوسعة نفوذها في العراق تواجه الآن تحديات جديدة. فإيران منشغلة بجائحة فيروس كورونا في الداخل وكذلك معارضة الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة التي تساندها في العراق ولبنان.
ويؤيد آية الله العظمى السيد علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق دعوات للإصلاح السياسي كما أنه يعارض منذ فترة طويلة التدخل الأجنبي بما في ذلك التدخل الإيراني في البلاد.
وتحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها تقليص النفوذ الإيراني بالعقوبات واغتيال قادة عسكريين وبتحالف جديد بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين.
وللمرة الأولى منذ سنوات أخذت حكومة عراقية بقيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي صف الولايات المتحدة. وعارضت الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران تعيين الكاظمي.
وكانت زيارة بلارك خلال سبتمبر لكربلاء أحدث علامة على أن الحرس الثوري يواصل أعمال مؤسسة الكوثر رغم الضغوط الأمريكية على أنشطته في العراق.
وقالت وزارة الخزانة الأمريكية في نص العقوبات التي فُرضت في مارس آذار إن مؤسسة الكوثر “عملت كقاعدة لأنشطة المخابرات الإيرانية في العراق بل وشحن أسلحة وذخائر لجماعات الميليشيات الإرهابية المدعومة من إيران”.
وقال مسؤول بالجمارك العراقية لرويترز إن إيران لا تحتاج لنقل السلاح إلى مؤسسة الكوثر التي يتركز نشاطها في التجارة والقوة الناعمة.
وقال المسؤول “توجد وسائل أخرى لذلك فالفصائل التي تعمل لحسابهم تسيطر على الحدود من الشمال الكردي إلى جنوب العراق”.
وتنفذ مؤسسة الكوثر أعمال تطوير العتبات لحساب لجنة إعادة إعمار العتبات المقدسة باستخدام عدد من الشركات الإيرانية المتخصصة.
ويملك المؤسسة بلارك واثنان آخران على الأقل من المسؤولين الذين تربطهم صلات بالحرس الثوري ومنهم أحد قادة فيلق القدس يعمل انطلاقا من مدينة النجف المقدسة في جنوب العراق وفقا لما تقوله وزارة الخزانة الأمريكية.
وقال ضياء الأسدي النائب السابق الذي تربطه صلة وثيقة برجل الدين الشيعي مقتدى الصدر المولود في النجف “إيران عينها على العتبات منذ سقوط النظام (العراقي) في 2003”.
وتقع العتبة الحسينية التي يزورها ما يصل إلى 50 مليون زائر كل عام في مسجد فسيح تعلوه قبة ذهبية وتزين مداخله الزخارف وأبواب من الخشب والزجاج كلها من إيران وفقا لما قاله وزير الإسكان العراقي السابق بنكين ريكاني وعدة مصادر حكومية أخرى.
وقال ريكاني “المرايا اللي موجودة كلها صناعة إيرانية”.
ويتناول الزوار الطعام مجانا في قاعات خاصة ملحقة بالعتبة ويؤدون صلواتهم بينما يقطع ضجيج الحفر وأصوات أعمال أخرى رهبة السكون في المكان.
وزار صحفي من رويترز فندقا في كربلاء تستأجره العتبة الحسينية لاستضافة المهندسين الذين يعملون في المشروع. يقع الفندق في شارع يحظى بإجراءات تأمين ومُراقب بالكاميرات.
وفي بهو الاستقبال بالفندق عُلقت لافتة لتخليد ذكرى سليماني القائد الذي اغتالته الولايات المتحدة. ويتردد المهندسون على الاستقبال في فترات الراحة لاستلام وجبات غداء إيرانية تقليدية مكونة أساسا من الأرز والدجاج.
ويشغل عمال إيرانيون فندقين آخرين في المدينة وأكشاكا مقامة بجوار مكاتب مؤسسة الكوثر التي تطل على مشروع توسعة العتبة.
وهناك يعمل عمال إيرانيون يرتدون ملابس خاصة بالشركات التي تعاقدت معها مؤسسة الكوثر وسط علامات إرشادية باللغة الفارسية خاصة بالصحة والسلامة. وفي كثير من الأحيان يكون المهندسون الذين يضعون خوذات على رؤوسهم من خريجي جامعة الشهيد بهشتي في طهران وفقا لما قاله مقاول عراقي يعمل مع الكوثر.
والجامعة مدرجة في قوائم العقوبات الغربية بتهمة المشاركة في أبحاث الأسلحة النووية. وقد قال وزير العلوم الإيراني إن أنشطة الجامعة لا علاقة لها بأبحاث الأسلحة الذرية.
وكان موقع المشروع شبه خال قبل نحو عام لكنه سرعان ما امتلأ بهياكل المباني. وقد وقّع بلارك عقدا تقارب قيمته 650 مليون دولار في 2015 مع العتبة الحسينية لكي تقوم مؤسسة الكوثر بتنفيذ مشروع التوسعة باسم “صحن العقيلة زينب”، شقيقة الحسين.
وتقول لجنة إعادة إعمار العتبات المقدسة إنها تشرف على 17 مشروعا على الأقل في مراقد مهمة في النجف وكربلاء وبغداد ومدينة سامراء الشمالية. وكثيرا ما تكون تعاقدات هذه المشاريع لسنوات طويلة وتبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
وفي النجف قامت مؤسسة الكوثر ولجنة إعادة الإعمار بإصلاح القبة الذهبية في مرقد الإمام علي وإيوانه كما أنهما تنفذان توسعة للبنية التحتية في المرقد أيضا بتكلفة تبلغ 500 مليون دولار.
وفي بغداد صنعت المؤسسة واللجنة شبابيك مزخرفة في مرقدين لاثنين من أئمة الشيعة كما تعملان على إصلاح مئذنة مائلة بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية وفقا لما قاله مصدر مقرب من العتبات.
وتعمل اللجنة أيضا على توسعة مرقد الإمام العسكري في سامراء الذي فجره متطرفون في 2006 مما أدى إلى اندلاع بعض من أسوأ أعمال العنف الطائفية وإراقة الدماء في العراق.
ويتطلع بلارك إلى مزيد من الأعمال. فقد قال لوكالة فارس الإيرانية شبه الرسمية للأنباء في أغسطس آب إنه يأمل تنفيذ توسعة في موقع آخر في كربلاء هو مرقد الإمام العباس في إطار خطة وافقت عليها وزارة البلديات العراقية لكن المسؤولين بالمرقد لم يطلبوا ذلك حتى الآن.
وقال متحدث باسم وزارة الإسكان العراقية إنه لا يمكنه التعليق لأنه ليس لديه معلومات دقيقة عن هذا الأمر. ولم يصدر تعليق عن المرقد.
وتنفذ عدة شركات إيرانية الأعمال بصفة مقاولين. وتعمل شركة آب تابان المتخصصة في الأنفاق والأساسات والمياه في مشروع كربلاء وفقا لما قالته وكالة تسنيم للأنباء التي تربطها صلات بالحرس الثوري.
وتعمل شركة بديده لمقاولات الهندسة المدنية وشركة مانا للإنشاءات في مشروع كربلاء وتطوير مرقد الإمام علي في النجف وفقا لما ورد في مواقع إخبارية ومواقع شركات إيرانية. وتقول بديده على موقعها على الإنترنت إنها تهدف لزيادة حجم أعمالها في المنطقة.
ولم تتوصل رويترز إلى وجود صلة بين هذه الشركات والحرس الثوري بخلاف التعاقدات مع المؤسسات التي يديرها الحرس كما أن الشركات لا تخضع لعقوبات أمريكية. ولم ترد الشركات على طلبات للتعليق.
وقال مسؤول حكومي عراقي إن الكوثر لا تطلع أي إدارات حكومية عراقية على أنشطتها وأوضاعها المالية.
وقال مسؤول بالوقف الشيعي الذي يتولى إدارة المواقع الشيعية إنه لا يمكنه مناقشة أي موضوعات متصلة بأعمال الشركات الإيرانية لعدم توفر تفاصيل محددة عن أنشطتها.
وقال الشامي نائب الأمين العام للعتبة الحسينية “إذا قد يكون لهم نشاطات أخرى، لا نعرف هذا”.
وأضاف أنه لا علم له بأي عقوبات أمريكية مفروضة على مؤسسة الكوثر.
* وضع خاص
قال وزير الإسكان العراقي السابق ريكاني إن الدولة تمول عملية الشراء الأولية للأراضي الخاصة والعامة في المواقع من الموازنة المخصصة للسلطات الدينية الشيعية التي تتولى عملية الشراء.
أما بالنسبة لصحن العقيلة زينب وهو جزء من مشروع كربلاء فقد دفعت السلطات الدينية حوالي 170 مليون دولار لشراء ما لا يقل عن 300 عقار وفقا لما قالته مصادر مقربة من العتبات. وقالت المصادر إن مرقدي الحسين والعباس المجاور له يعتزمان شراء المزيد من الأراضي في المنطقة.
وقال محمد الذي كان يعيش حيث سيقام صحن العقيلة وكان يمتلك فندقين في المنطقة إن هدم ممتلكاته حقق له مبلغا كبيرا لكنه محا نشاطه وقضى على أملاك الأسرة التي توارثتها عبر أجيال.
وأضاف أنه لم يكن يريد بيع بيته لكنه أكد أنه لا حيلة له في مواجهة رغبة العتبات في التوسع، مشيرا إلى أن أصحاب الأملاك يحصلون على مبلغ كبير لبيع عقاراتهم وإذا رفضوا يصدر لهم أمر قضائي ملزم.
ودفع المرقد لمحمد وأشقائه الستة ما يقرب من مليون دولار مقابل أملاكهم. وهو يدير الآن متجرا ويعتمد اعتمادا كبيرا على حركة الزائرين للمراقد.
وقالت مصادر مطلعة مقربة من العتبة الحسينية إنه بعد الاستحواذ على الأرض تمول إيران مشروعات العتبات بالكامل – في الظاهر من تبرعات الإيرانيين المتدينين من الشيعة ومن خلال جمعيات خيرية ترتبط بمؤسسات العتبات الشيعية.
وقال موظف إيراني في مؤسسة الكوثر رفض نشر اسمه إن جانبا كبيرا من المال يأتي من خزائن الدولة الإيرانية لكنه لم يكن يعلم حجم هذا التمويل. وأضاف قائلا إن مشروعا تزيد تكلفته عن 600 مليون دولار “لا يمكن أن يتحقق بالتبرعات. فأنت تحتاج لدولة وراء ذلك”. وأيدت مصادر أخرى عراقية وإيرانية هذا الرأي.
وتحصل مشروعات العتبات على وضع خاص بمقتضى القانون العراقي أي أنها تخضع لإشراف مؤسسات العتبات ولا تخضع لإشراف الدولة. وتسري إعفاءات جمركية على كل المواد الواردة من إيران والخارج للمشروعات الدينية الممولة بالتبرعات.
وامتنع مصدر مقرب من العتبة الحسينية مطلع على المشاريع الهندسية عن ذكر حجم الصلب والأسمنت والأخشاب وغيرها من الواردات القادمة من إيران للمشروع.
وقال تاجر عراقي يعمل مع مؤسسة الكوثر إن كميات كبيرة من الصلب والأسمنت تستورد من إيران معفاة من الضرائب تحت غطاء مشروعات العتبات لكنها تباع عن طريق وسطاء في السوق العراقية حيث الأسعار فيها أعلى منها في إيران.
وقال مسؤول عراقي رفيع على دراية مباشرة بالوضع إن الشركات المشاركة في مشروعات العتبات عادة ما تطلب أضعاف الكميات المطلوبة من مواد البناء.
وأصر الشامي نائب الأمين العام للعتبة الحسينية أنه سيكون من الصعب تسريب البضائع بهذه الطريقة لأن مسؤولي الجمارك الإيرانيين والعراقيين يتفقدونها ثم تُنقل مباشرة إلى مخازن العتبات. غير أنه لم يستبعد إمكانية أن تكون لبعض الواردات وثائق مزورة.
وأضاف “كل شيء ممكن في العراق”.
وكانت الشركات تتولى نقل عمالها بالحافلات من إيران حتى عندما تكون الحدود مغلقة مثلما حدث خلال الموجة الأولى من جائحة كوفيد-19.
وقال موظف إيراني بمؤسسة الكوثر لرويترز إنه عند إغلاق الحدود في المرة الأولى حدثت مشاكل في الدخول إلى العراق لكن العتبة الحسينية تدخلت للحصول على استثناءات. وقدر أن هناك حوالي 200 عامل إيراني يعملون حاليا انخفاضا من 2000 في وقت سابق.
وقال الشامي إنه لا يعلم ما إذا كانت العتبة قد طلبت إستثناءات لسفر العمال الإيرانيين.
وقال مسؤول الجمارك العراقي ومقاول عراقي إن مؤسسة الكوثر تشارك أيضا في مشروعات أخرى للبنية التحتية تشمل أيضا قطاع الطاقة. وقال المقاول إن من هذه المشروعات محطة للكهرباء في البصرة.
وتقود العمل في مشروع محطة الكهرباء شركة إيرانية تعمل في مجال الطاقة اسمها مبنا تخضع أيضا للعقوبات الأمريكية.
وتوصلت رويترز من مراجعة لوثائق رسمية أن شركة مبنا تتولى إنشاء محطات للكهرباء في النجف وبغداد وكذلك واحد من أكبر الفنادق في كربلاء. ولم ترد الشركة على طلب للتعليق.
* استراتيجية بعيدة المدى
يقول عمال في كربلاء إنهم يرون دليلا على أن العقوبات الأمريكية موجعة لإيران ولمؤسسة الكوثر. فقد قال الموظف الإيراني بالمؤسسة لرويترز إنه اعتاد تحويل 1100 دولار شهريا لبلاده كانت تسدد له بالدينار العراقي المستقر. غير أنه لا يحصل سوى على حوالي 200 دولار منذ سريان العقوبات لأنه يحصل الآن على مرتبه بالريال الإيراني الضعيف.
وكادت الأعمال المتاحة في الموقع للعراقيين أن تختفي. وقال مهندس عراقي حديث التخرج اعتاد أن يحصل على عمل منتظم في مشروع العتبة لرويترز إنه يقضي أياما الآن على أمل الحصول على عمل. وهو يواجه صعوبات في إعالة أسرته الصغيرة.
وبالنسبة للجمهورية الإسلامية تعد المشاركة في تطوير المراقد الشيعية في العراق استراتيجية بعيدة المدى. إذ يحقق لها ذلك وجودا دائما في مراكز النفوذ الشيعي حيث تأمل إيران التأثير في خلافة السيستاني أكثر رجال الدين الشيعة في العراق نفوذا.
ويوجد الحرس الثوري بصفة منتظمة في النجف حيث مقر السيستاني.
وكانت فتاوى وبيانات السيستاني قد دفعت العراقيين للمشاركة في الانتخابات للمرة الأولى في حياتهم عام 2005 وأدت إلى ظهور مزيج من الفصائل المسلحة الشيعية لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في 2014 وأطاحت بحكومة عراقية في العام الماضي.
ويعارض السيستاني أي تدخل خارجي حتى إذا كان إيرانيا في شؤون العراق كما يعارض نموذج الحكم الديني على غرار ولاية الفقيه. وفي 2018 توفي المرجع الذي وقع عليه اختيار إيران لخلافة السيستاني البالغ من العمر 90 عاما وذلك في انتكاسة لخطط طهران في العراق.
ورغم أن قطاعات كبيرة من الشيعة في العراق تشعر باستياء من النفوذ الإيراني فإن العلاقات الدينية راسخة. وفي العتبة الحسينية تحيط إطارات بفتحات أطلق منها جنود صدام النار على متمردين من الشيعة في 1991. وفي ذلك الوقت كانت إيران ملاذا للمعارضة الشيعية لصدام.
وزيارة مرقد الحسين الذي قتل في معركة عام 680 ميلادية ترتبط ارتباطا وثيقا بالاستشهاد اليوم. فإلى جوار صور الحسين على الطرق السريعة في العراق ترتفع صور لرجال الفصائل الشيعية الذين سقطوا قتلى أثناء محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
وترتفع أيضا مع صورهم صور أبو مهدي المهندس عراب الفصائل المسلحة الذي قتلته الولايات المتحدة مع القائد الإيراني سليماني.
وظهرت صور أبو مهدي وسليماني هذا العام على لافتة في كشك واحد بجوار العتبة الحسينية يتم فيه تقديم الشاي والعصائر مجانا للزوار ويديره العاملون في مؤسسة الكوثر. وبجانب الكشك ارتفعت أعلام قوات الحشد الشعبي العراقية. وفي العتبة الكاظمية في بغداد يخصص صندوق للتبرعات لقوات الحشد.
وقال مسؤولون عراقيون وخبراء إيرانيون إن إيران تستخدم وجودها لإبراز قوتها الإقليمية أمام السعودية ودعم شرعيتها في الداخل باعتبارها حامية الأماكن الشيعية المقدسة. ولم يدل مسؤولون سعوديون بأي تعليق للنشر في هذا التقرير.
وقال النائب محمد صاحب الدراجي عضو اللجنة المالية النيابية “إيران تريد نفوذا اقتصاديا ودينيا وسياسيا. وأفضل مكان لتحقيق ذلك هو كربلاء والنجف. إيران ضعفت لكنها أقوى من أمريكا في العراق”.
ويقول عراقيون عاديون إنهم يجدون أنفسهم من جديد في قلب السجال بين إيران وأمريكا. ويشعر خريج الهندسة العراقي الذي يبدو أكبر سنا من أعوامه الثلاثين ويرتدي قبعة بيسبول مهلهلة بالاستياء لأن العمل الوحيد الذي تيسر له في مدينته يديره الحرس الثوري. لكنه يستاء أيضا من أن حتى فرصة العمل هذه بدأت تنضب مع بدء سريان العقوبات الأمريكية.
وهو يقضي أغلب أيامه باحثا عن أعمال بسيطة. وعندما يتملكه السأم يقترض ثمن تذكرة الحافلة ويسافر إلى بغداد مع مهندسين آخرين يبحثون عن عمل للمشاركة في احتجاجات والمطالبة بوظائف ويندد بالنخبة الحاكمة في العراق وبإيران.
وقال إنه يعمل الآن لبضعة أيام في مشروع العتبات كلما يتيسر له ذلك، مضيفا أن راتبه انخفض إلى النصف ورغم ذلك فهو على استعداد للعمل لحساب الإيرانيين للحصول على قوت يومه لأنه لا يملك خيارا آخر.