تلوث الهواء ..قاتل العصر

كتب /حاتم السروي
تلوث الهواء هو بلا شك أحد أضخم المشكلات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، وتزداد المأساة عمقًا بمعدل سنوي مُطَّرِد لأن حجم الملوثات التي ينفثها الإنسان في الهواء يزداد تراكميًا. ونعرف جميعًا أن هناك علاقة واضحة بين تلوث الهواء من جهة وتلوث الماء والتربة من جهةٍ أخرى.
وهناك خطأ شائع في تعريف الهواء؛ فالبعض يعتقد أنه الأوكسجين فقط مع أنه (مخلوط غازي يملأ جو الكرة الأرضية) ويدخل فيه بخار الماء، والحاصل أنه يتكون من عددٍ كبير من العناصر والمركبات الكيميائية ويقدر العلماء ما هو معروفٌ منها الآن بنحو 100 ما بين عناصر ومركبات، على أن العنصر الأكبر في الهواء هو النيتروجين ونسبته على وجه الدقة 78.084% وهو غاز خامل، ويليه الأوكسجين بنسبة 20.946% وهو نشط ومهم ولا غنى عنه لحياة الإنسان والحيوان، ويدخل في تكوين الخلايا الحية بنسبة تبلغ ربع مجموع الذرات التي تدخل في تركيبها. ولو قلت نسبة الأوكسجين في الغلاف الجوي عن مقدارها المحدد بعناية أو زادت فإن كافة مظاهر الحياة يصيبها التدهور وربما تعطلت تمامًا.
ولعل أحدًا يتسائل لماذا كانت النسبة الأكبر لغاز النيتروجين الخامل والمخفف للهواء؟ والإجابة بسيطة إذ لو كانت نسبة الأوكسجين هي الأكبر وسقطت من الفضاء الخارجي شرارة كهربائية على الأرض وهو ما يحدث أحيانًا فإن هذه الشرارة كفيلة بإحراق الأرض ومن عليها دون أدنى مبالغة، لهذا كان من الحكمة أن تكون النسبة الأكبر لغاز خامل لا يساعد على الاحتراق بحيث يحمي الكرة الأرضية من الاحتراق.
وبعد النيتروجين والأوكسجين يتبقى فقط من الهواء ما نسبته 1% والعجيب أن هذا الواحد في المئة يدخل في تكوينه عدد كبير من الغازات الأخرى التي منها (الأرجون) ويشكل ما نسبته 00.93% من الهواء الجاف، و(الهيدروجين) بنسبة 0.01%، و(ثاني أوكسيد الكربون) 0.03% ويضاف إلى ذلك غازات (أول أوكسيد الكربون، والهيليوم، والميثان، والكريبتون، والأوزون، والنيون، والزينون، وأيضًا ثاني أوكسيد الكبريت، وبخار الماء).
ولكن السؤال المحوري الذي يتوجب علينا طرحه الآن: متى يتلوث الهواء؟ إن الهواء يتلوث عندما توجد فيه مادة أو أو أكثر بغض النظر عما إذا كانت غازية أو صلبة أو سائلة ومن شأن هذه المادة الغريبة أن تسبب التلوث، ويتلوث أيضًا عندما نرى تغيرًا ملحوظًا في نسب الغازات المكونة له، على أنه يمكن تلخيص أهم الملوثات الهوائية في ثلاثة أنواع:
أولها: الملوثات التي تنتج عن احتراق الوقود العضوي كالبترول والفحم ومنتجاتهما.
ثانيهما: الملوثات الناتجة عن المخلفات الصناعية.
وأخيرًا: الملوثات الناتجة عن حرق أو إعادة استخدام النفايات والمخلفات الصناعية.
وبشكل عام يمكن القول أنه إذا وجدت أية مواد صلبة أو سائلة أو غازية في الهواء بكمياتٍ توقع أضرارًا فسيولوجية أو اقتصادية بالإنسان والحيوانات والنبات والآلاتـ أو تؤدي إلى تغييرٍ ما في طبيعة الأشياء وفي مظهرها وخصائصها الفيزيائية والكيميائية فبهذا يكون قد حدث التلوث.
- والتلوث ليس مستجدًا ولا هو من سمات العصر الحديث وحده؛ فالهواء على مر التاريخ لم يسلم من تواجد المواد الغريبة على تكوينه، مع فارق أن هذه المواد كانت تأتي من مصادر طبيعية بحتة، ومنها على سبيل المثال: الغازات والأبخرة التي تتصاعد من ثورات البراكين، أو تنتج من حرائق الغابات، وهناك الأتربة وبعض الكائنات الحية الدقيقة التي تسبب أمراضًا، غير أن هذا كله لم يكن بالكمية التي تحدث ضررًا كبيرًا للإنسان وتؤدي إلى حدوث الأمراض الصدرية والسرطانات، بل كان في وسع الإنسان أن يحتمل هذا التلوث ويتعايش مع آثاره الطفيفة.
ولم تنشأ مشكلة التلوث في الحقيقة إلا مع الثورة الصناعية ودخول الميكنة وأصبح التلوث مزعجًا باعثًا على القلق، وعادةً ما يتلوث الهواء في عصرنا الحاضر بالمواد الصلبة التي تعلق به كالدخان وعوادم السيارات وأتربة الأسمنت، وهناك أتربة تنتج من المبيدات الحشرية. ومن الغازات التي تلوث البيئة: (كبريتيد الهيدروجين وثاني أوكسيد الكبريت وأول أوكسيد الكربون) أما الأبخرة الملوثة فهي (أبخرة الهيدروكربونات النفطية المتطايرة) وهي خانقة. كما أن الهواء يتلوث بالإشعاعات الذرية ذات المصادر الطبيعية مثل “الرادون” أو الصناعية ومثالها الإشعاعات التي نجمت عن إنفجار مفاعل تشيرنوبل النووي في روسيا.
ومن المؤكد أن عفن الحيونات النافقة وتحلل النباتات يؤديان إلى تلوث البيئة ولكن تأثيرهما بالطبع أقل كثيرًا من تأثير المواد الصلبة والأبخرة الخانقة.
ولنا وقفة خاصة مع غاز أول أوكسيد الكربون فهو أحد أكبر الملوثات الرئيسية على مستوى العالم وينتج بشكل أساسي عن الاحتراق الكامل لمختلف أنواع الوقود العضوي مثل الفحم والمازوت والمنتجات البترولية الأخرى، كما أنه ينتج عن الاحتراق غير الكامل لبعض المركبات الكيميائية مثل الكيتونات، والألدهيدات، والألكانيات.
وأول أوكسيد الكربون يشكل النسبة الكبرى من غازات العادم، ويؤدي الاحتراق غير الكامل لبنزين السيارات (ويسمى أيضًا الجازولين) إلى تكوينه. والثابت من الوجهة العلمية أن أفضل السيارات من حيث الأداء لا يتم احتراق البنزين فيها بشكل كامل مهما كان نوع هذه السيارات، كما أنه من الثابت أن السيارة الواحدة تطلق في العام الواحد ما يقارب 1450 كيلو جرامًا من أول أوكسيد الكربون الذي هو غاز قاتل بلا شك، وهذا يعني أن كمية الغاز المنطلقة من ألف سيارة تعدل أربعة أطنان كل يوم! وهو رقم بلاشك مفزع ويبعث على الخوف.
والسجائر أيضًا من مسببات انبعاث أول أوكسيد الكربون حيث تصل نسبة تركيزه في السيجارة الواحدة 42 ألف جزء لكل مليون جزء من الهواء ولهذا تزيد نسبة هذا الغاز في هواء الشهيق الذي يدخل الرئة عند التدخين.
وسُمِّيَّة أول أوكسيد الكربون كبيرة وتكمن الخطورة في عدم الإحساس بالغاز في الوقت المناسب وهو يتحد مع (هيموجلوبين الدم) بشراسة وهذا الهيموجلوبين هو المسئول عن التقاط الأوكسجين ثم نقله إلى كل أنحاء الجسم البشري. ولأن أول أوكسيد الكربون أقوى من الأوكسجين 300 مرة فإنه يتصارع معه ثم يفوز عليه وبالتالي تقل نسبة الأوكسجين في الجسم بشكل لا يجعله يفي باحتياجات الإنسان الضرورية فيزداد ضخ الدم من عضلة القلب وبالتالي يزداد معدل النبض وقد تحدث أزمة قلبية، ومن المؤكد وجود ضيق في التنفس وتصلب في الشرايين، وقد بين العلماء أن أكثر الأعضاء تأثرًا باخفاض الأوكسجين في الدم هو الدماغ والجهاز العصبي. ويتصف الهيموجلوبين بشدة غرامه لأول أوكسيد الكربون! فهو يتحد معه ليتكون بذلك مركب الـ (كاربوكسي هيموجلوبين) الذي يقلل من قدرة الدم على استخلاص الأوكسجين المستنشق يومًا بعد يوم.
ومن الجدير بالذكر أن دم الإنسان العادي يحتوي على نصف في المئة من الكاربوكسي هيموجلوبين في الظروف الطبيعية؛ أما المدخن فتزيد النسبة في دمائه إلى 5% بل قد تصل إلى 16% عند المدخن الشره، ومن المؤكد أن التدخين قضى على حياة الكثيرين ولعلنا نذكر الفنان الراحل أحمد زكي رحمه الله حيث كان موفور النشاط كثير الفكر ولا يهدأ من العمل وكان يدخن كثيرًا مما أدى إلى إصابته بسرطان الرئة ثم وفاته عن عمر لا يجاوز السادسة والخمسين عاما، ويؤكد الأطباء أن الذي يدخن السيجار الفاخر حالته أسوأ من مدخن السجائر العادية!.
كما تؤدي زيادة نسبة امتصاص أول أوكسيد الكربون إلى حدوث اضطراب في كرات الدم البيضاء وبالتالي التعرض لخطر الإصابة بالأمراض الخبيثة وربما الوفاة التي تحدث فجأةً، وهي سمة من سمات عصرنا وقد أخبر نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أن كثرة موت الفجأة من علامات الساعة في آخر الزمان.
ولغاز أول أوكسيد الكربون تأثير على الرؤية البصرية والسمع ويؤدي استنشاق سائق السيارة له إلى فقدان الوعي في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى إلى ضعف رد الفعل عند السائق وقد ينام على عجلة القيادة أو يخرج عن الطريق دون سبب ظاهر.
ويمكن رد حالات التسمم بالغاز القاتل أول أوكسيد الكربون إلى عيوب في جهاز العادم الخاص بالسيارة (الشكمان) مثل وجود ثقب في كاتم الصوت، أو وجود أنبوب غير محكم أو طوق تالف، أو أن أنبوب العادم يسرب الغاز. وهذه العيوب ليست هينة إذ يمكن أن تؤدي إلى تسرب الأبخرة داخل السيارة بدلًا من دفعها إلى نهاية الأنبوب لتخرج في الهواء الطلق، ولهذا فإنه من المناسب أن يتم فحص الشكمان بانتظام مع فتح نوافذ السيارة أثناء قيادتها في الطريق المزدحم الذي تسير فيه السيارات ببطء، وسكان القاهرة يعرفون هذا جيدًا وقد جربوه مرارًا حيث تجد أن السائر على قدميه في بعض الأحيان يكون أسرع من السيارات! وإذا شعر السائق بالنعاس فجأة فعليه بإيقاف السيارة فورًا والخروج منه بسرعة، ومن الثابت أن ارتفاع نسبة الغاز في الزحام يؤدي إلى حدوث الإغماء، كما أن كثيرًا من حوادث التصادم بين السيارات سببها ارتفاع نسبة الكربوكسي هيموجلوبين عند السائق.
ونقول أخيرًا: فليفرح الإنسان باختراعاته التكنولوجية وليتباهى بما عنده من العلم، وعليه بعد ذلك ألا ينسى الموت وألا ينسى أنه صنع الموت بيديه وقدمه لنفسه قانعًا مختارًا دون ضغط أو إكراه؛ فهو الذي اخترع السيارة والسيجارة، وإذا كان للسيارة فوائد جَمَّة فما فائدة التدخين؟! إنه بلاء جرتنا إليه ضغوط الحياة وعلينا أن ننتصر لأنفسنا من أنفسنا، وبحقٍ ما قيل: الصحة تاج على رؤؤس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- تقتضينا الأمانة العلمية أن نذكر استفادتنا من كتاب ” البيئة: مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث” لمؤلفه الدكتور/ محمد عبد القادر الفقي. وقد صدر هذا الكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع سنة 1999م. ونقدم الشكر للمؤلف.
-
حاتم السروي كاتب وقاص ومسئول خدمة المؤلف بالهيئة المصرية العامة للكتاب.