تنبيه الأماجد لمقولة “لايفتي قاعدٌ لمجاهد»

متابعة هاني حسبو
من أكثر العبارات التي تُتداول في ساحات الإنترنت والنقاشات الفكرية – دون ضبط علمي – قولهم: «لا يفتي قاعدٌ لمجاهد».
وهي عبارة قد تبدو في ظاهرها إنصافًا لأهل الميدان، لكنها في باطنها تفتح بابًا واسعًا للفوضى في الفتوى والقيادة.
أولًا: من أين جاءت عبارة “لا يفتي قاعدٌ لمجاهد”؟
هذه ليست نصًا شرعيًا من كتابٍ أو سنة، ولا وردت بهذا اللفظ في كلام السلف.
وإنما هي عبارة حادثة، تُستعمل في سياقٍ جدلي لتسكيت النقد أو الاعتراض على بعض قرارات الفصائل أو القادة في الميدان.
فهي ليست قاعدة فقهية، ولا أصلًا أصوليًا، ولا حتى حكمة مأثورة معتبرة.
ثانيًا: هل لها معنى صحيح جزئياً؟!
نعم، لأن الأصل أن القائلين بها يريدون الإشارة إلى أن للمجاهدين في الميدان معطيات واقعية لا يدركها من هم خارج الميدان،
فلا يجوز لمن لا يعرف تلك التفاصيل أن يُصدر فتوى عملية في جزئيات ميدانية كتحريك الكتائب، أو توقيت الهجوم، أو نوع السلاح، أو مفاوضة العدو، لأن هذه مسائل تقدير مصلحة ومفسدة مرتبطة بالميدان.
وهذا معنى صحيح جزئيًا، لأن الحكم الشرعي قد يختلف باختلاف القدرة والمآل والمصلحة، وهذه لا يدركها إلا أهل الميدان.
لكن الخطأ أن تُعمَّم هذه القاعدة حتى تُلغى معها الرقابة الشرعية على العمل الجهادي،
ويُسكت العلماء والمصلحون بحجة أنهم “قاعدون”.
ثالثًا: موطن الانحراف في استعمالها.
الإشكال أن بعض الناس جعلها ذريعة لإلغاء الرقابة الشرعية على العمل الجهادي!
فصارت تُستخدم بمعنى: “لا أحد يراجع القادة”، أو “من ليس في الجبهة فليس له أن يتكلم”،
بل وربما يُقالها في وجه العلماء الراسخين، فيُمنعون من بيان الخطأ أو تجاوز الحد الشرعي، بحجة أنهم “قاعدون”!
ومن ثَمّ، تتحول العبارة من تذكير بالميدان إلى شعارٍ يُستعمل لتكميم الأفواه الشرعية، فيُقصى العلماء، وتُحتكر الفتوى بيد القادة الميدانيين الذين لا يملكون أدوات النظر الشرعي والمصلحي الذي يملكه أهل الحل والعقد (المستشارون من العلماء والسياسيين والمفكرين وكبار أهل المهن وقادة الجيوش السابقين والحاليين وغيرهم) بل وتجعل القائد السياسي تحت القائد العسكري وأحياناً تابعاً له!
رابعًا: الردّ الشرعي والعقلي على هذا الفهم
1- الفتوى مناطها العلم لا الموقع.
قال تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾، ولم يقل: فاسألوا من في الميدان.
فالعبرة بالعلم والورع، لا بالمكان أو السلاح.
2- القائد ليس معصومًا.
العصمة للنبي عليه الصلاة والسلام وحده،
أما غيره فيُراجع ويُناقش، وقد خالف الصحابةُ قادتهم في بعض المواقف الميدانية، ولم يكن ذلك خروجًا ولا خيانة.
3- الفصل بين أهل العلم وأهل الخبرة خطأ منهجي.
فالأمة تحتاج إلى تكامل الطرفين:
العلماء يُبيّنون حدود الشرع، وأهل الميدان يُقدّرون الواقع،
وكلاهما يسير في خطٍّ واحد، لا أن يستبدّ أحدهما بالآخر.
الفتوى نوعان:
👈شرعية مطلقة: كجواز الهدنة، أو نقض العهد، أو الاغتيال، وهذه لا يُفصل فيها إلا العلماء الراسخون.
👈ميدانية جزئية: كتوقيت الهجوم أو إدارة المعركة، وهذه لأهل الخبرة.
فلكلٍّ مجاله، ولا يجوز الخلط بين “العلم بالحكم” و“القدرة على التنفيذ”
خامسًا: خطورة إقصاء العلماء.
حين يُقال “لا يفتي قاعد لمجاهد” بمعنى إسكات العلماء، فهذه بداية الانحرافات التي مزّقت الحركات الجهادية عبر التاريخ:
بدأت بالشعار نفسه، ثم صار القائد هو المفتي، وهو القاضي، وهو الوليّ، وهو الميدان، ثم في النهاية ينحرف الكثير منهم عن الشريعة بدعوى “الظروف الاستثنائية”.
(ولا أحد يُنزِل هذا على ح….م….اس، فالمقصود عام وليس خاص، وإلا فداعش والقاعدة والجماعة الإسلامية وجماعات الجهاد المصرية وغيرها وقعت في ذلك بشكل متكرر)
وقد حذّر العلماء من هذا في السياسة الشرعية، فكانت خلاصة قولهم في هذا: “أنه لا يجوز لأحد أن ينصب نفسه للولاية أو القتال أو الفتيا إلا بعلم وعدل”.
ملحوظة: هل يحق لأي عالم بعيد أن يفتي في قضايا الجهاد؟
الجواب: ليس بإطلاق.
بل يشترط أن يكون العالم عارفًا بالواقع المحلي والسياسي والميداني،
فمن جمع بين علم الشرع وفهم الواقع، جاز له التعقيب والبيان،
أما من يجهل تفاصيل الميدان فلا يتكلم إلا في الأصول العامة دون توجيهٍ تفصيلي.
وأما عامة الناس، فواجبهم النصرة والدعاء والإعانة، لا الدخول في جدل الفتاوى والتوجيهات.
سادسًا: الخلاصة
العبارة ليست حديثًا ولا قاعدة فقهية.
فيها جانب من الصواب في التقديرات الميدانية الجزئية.
لكنها تُستعمل باطلًا لإسكات العلماء، وهذا من صور الغلوّ.
العلماء يضبطون الشرع، والمجاهدون ينفذون وفقه، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
إذًا:
لا يُفتي قاعدٌ لمجاهد = باطلة بإطلاقها.
ولا يُقاتل مجاهدٌ بغير فتوى عالم = قاعدة صحيحة شرعًا.
العلم ميزان الشرع،
والقوة ميزان الواقع،
ولا نصرَ إلا حين يلتقي العلمان: علم الهداية، وعلم القيادة.
فالعالمُ يزن الفعلَ بميزان الشرع، والمجاهدُ يزنُه بميزان القدرة، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
مختارة من مواقع التواصل الاجتماعي.