جريمة الإرجاف وتداعياتها وعقوباتها
بقلم / الدكتور أحمد كريمة
تضافرت نصوص شرعية محكمة ، وقواعد فقهية راسخة ، وإجماع آئمة العلم الذين يعتد بعلمهم ، على شرف الجندية للدفاع عن الأرض والعرض والمال وأناط بهم واجبات من الرباط والجهاد معاً ، فأما ” الرباط ” معناه المعاصر ملازمة الحدود لحمايتها وصيانتها ، قال الله – عز وجل – : { اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } .
وأطبق آئمة العلم على المراد بالرباط فى الآية القرآنية المحكمة : الملازمة فى سبيل الله – تبارك وتعالى – ، وأنه أصل الجهاد وفرعه ، وقال سيدنا محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
( رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما عليها …. ) ، وأفضل الرباط : أشد الثغور خوفاً ، لأن مقامه به أنفع ، وأهله أحوج .
ومما يلحق بالرباط : الحراسة ، وكلاهما يتحققان فى الجيش والشرطة .
وأما ” الجهاد ” ومفهومه فيما نحن بصدده : مجاهدة العدو والظاهر بالقتال والدفاع للذود عن البلاد والعباد ، وفضله عظيم ، وحاصله : بذل الإنسان نفسه ابتغاء مرضاة الله – سبحانه – وتقرباً بذلك إليه ، ويتحقق فى الجهاد المشروع ، أما جرائم ” البغى ” ، ” الحرابة ” ، ” الصيال ” فليست جهاداً ولا رباطاً ، بل هى جرائم مخلة بالأمن العام والدماء والأعراض والأموال ولها عقوباتها الدنيوية المفضلة فى ” التشريع الجنائى الإسلامى ” بصفة عامة ، وأبواب : الحدود والجنايات على النفوس ، والدفاع الشرعى الخاص والجيش والجندية جهاد مشروع فى الدين الحق ، قال آئمة العلم : الذين يقاتلون – الأعداء ، قد بذلوا مهج أنفسهم
والنصوص الشرعية فى فضل الجندية ( القوات المسلحة ) كثيرة منها :
قول الله – عز وجل – : { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ، { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } ، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } .
من السنة النبوية : قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : ” مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم ، وتوكل الله للمجاهد فى سبيله ، بأن يتوفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالماً مع أجر أنيمة ” ، وروى أن رجلاً جاء إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – فقال : دلنى على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : لا أجده ، ثم قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن يدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ قال : ومن يستطيع ذلك ؟ ” .
ثانياً : الجيش المصرى قامة وقيمة ومكانة فى التاريخ وفى الإسلام ، فأما فى التاريخ فهو أقدم جيش فى التاريخ الإنسانى ، فقد ظهر فى مصر كنانة الله – عز وجل – فى أرضه ، حوالى عام 3200 قبل الميلاد عقب توحيد الملك الفرعونى نمرمر ، ونبغ قادة عظام فى الجندية المصرية فى التاريخ القديم أشهرهم ” تحتمس الثالث ” والأدوار البطولية التى تعد ملاحم فخار للجيش المصرى تفوق الحصر ، فمن ذلك تحريره لمدينة القدس من أيدى الصليبيين الغربيين ، وإيقافه لزحف المغول ، وفى التاريخ المعاصر القريب طور محمد على باشا – رحمه الله تعالى – الجيش المصرى وتولى بعض أبناءه مهام القياده فيه وحديثاً اضطلع الجيش المصرى بالقضية الفلسطينية بحروب ضد الصهاينة بدء من عام 1952.م بالضباط الأحرار ، لإجلاء البريطانيين عن مصر ، وساند ثورات وطنية للإصلاح الوطنى فى أحداث 25 من يناير سنة 2011.م و 30 من يونيو .
وأثنى رسول الله سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – على الجيش المصرى وأخبر منذ ما يزيد على ألف وخمسمائة عام على صلابته وكفاءته فمن ذلك : ما رواه عمرو بن الحمق – رضى الله عنه – عن سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ستكون فتنة أسلم الناس فيها – وفى رواية : لخير الناس فيها الجند الغربى ” قال الراوى فلذلك قدمت مصر ” – مستدرك الحاكم 4/495 ، المعجم الأوسط للطبرانى 8/315 ، الفتن لابن نعيم 1/54 ، أخبار المدينة 2/190 وما بعدها .
وقريب منه ما رواه سعد بن أبى وقاص – رضى الله عنه – قال ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ” – صحيح مسلم 3/1525 رقم 1925 .
وعن عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يقول : إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض ، فقال أبو بكر – رضى الله عنه – ولم يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة ” الدراقطنى فى المؤتلف والمختلف 2/1003 ، وابن عساكر فى التاريخ 46/162 ، ابن زولاق فى فضائل مصر ص 83 ، المقريزى فى إمتاع الأسماع 14/185 –
تعليقاً على الأسانيد للأحاديث سالفة الذكر :
خبر مستدرك الحاكم بسنده عن عمرو بن الحمق – رضى الله عنه – : قال الإمام الذهبى فى تعليقه على المستدرك : صحيح ، وقرر الثقاة دفع جهالة أحد الرواه – عميرة بن عبد الله المغافرى – حيث تم توثيقه وتعديله : الإكمال لابن ماكولا 6/276 ، الثقاة للعجلى 1/378 ، التايخ الكبير 1/48 ، الثقاة 7/292 ، التهذيب 8/197 ، التقريب لابن حجر 1/573 – وقوى هذا الحديث ما جاء فى مسند البزار 6/287 .
خبر سعد بن أبى وقاص – رضى الله عنه – فى صحيح مسلم .
خبر عمر – رضى الله عنه – : قرر أهل الجرح والتعديل عدالة ابن لهيعة – الذى ضعف الخبر من البعض بسببه : وقرروا أن روايته تبلغ درجة الحسن : مجمع الزوائد 6/97 ، تحفة الأريب للعبدلى ص 9 ، النهاية فى الفتن والملاحم 2/374
بالإضافة إلى شواهد أخرى تقوى خير” خير أجناد الأرض ” : مثل ما رواه أبو يعلى فى مسند 35/51 ، برقم 1473 ، وابن حبان فى صحيحه 15/69 ، رقم 6677 ، وابن عبد الحكم فى فتوح مصر ص 53 ، ما روى عن سيدنا رسول الله – – : ” إنكم ستقدمون على قوم جعد رءوسهم ، فاستوصوا بهم خيرا ، فإنهم قوة لكم ، وبلاغ إلى عدوكم ، بإذن الله ” أ . هـ .
عن أم سلمة – رضى الله عنها – قالت : ” إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أوصى عند وفاته فقال : الله لله فى قبط مصر ، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً فى سبيل الله ”
تعليقات على المتن للأحاديث :
خبر : ” ستكون فتن أسلم الناس فيها – أو لخير الناس فيها الجند الغربى ”
يراد بهم قطعاً الجيش المصرى ، لأن الغربى يراد به مصر كما جاء فى القرآن الكريم قال الله – عز وجل – : وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ” – الآية 44 من سورة القصص – .
وجه الدلالة : المراد بجانب الغربى : الجانب الغربى لجبل الطور الذى وقع فيه الميقات ، وتلقى سيدنا موسى – عليه السلام – التوراة من ربه – عز وجل : تفسير ابن كثير 6/249 ، التفسير الوسيط أ.د / محمد سيد طنطاوى 10/540 .
قلت : وهذه البقعة المباركة من أرض مصر ، إذن الجند الغربى هم المصريون يقيناً .
يضاف إلى ذلك أن راوى الحديث قال : فلذلك قدمت مصر ، وفد ذكر ابن عبد الحكم فى تسمية من روى عنه أهل مصر من أصحاب سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا الراوى – رضى الله عنه .
خبر سعد بن أبى وقاص – رضى الله عنه – : ” لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ” : أهل الغرب هم أهل مصر : الديباج على مسلم للسيوطى 4/514 .
خبر عمر – رضى الله عنه – : ” إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض …. ”
وجه الدلالة : ظاهر أن المدح لجند مصر .
لمزيد من التوسع : كتاب الجند الغربى الجيش المصرى د . عمر محمد سيد عبد العزيز ، ط دار جوامع الكلم بمسجد سيدى صالح الجعفرى – رحمه الله تعالى – الدراسة – القاهرة – مصر .
تعريف الإرجاف :
أ ) لغة : الاضطراب الشديد ،ن ويطلق أيضا على : الخوض فى الأخبار السيئة وذكر الفتن ، لأنه ينشا عنه اضطراب بين الناس () ،
ب ) الاصطلاح الفقهى : التماس الفتنة ، وإشاعة الكذب والباطل للاغتمام به () .
ألفاظ ذات صلة :
أ ) التخذيل : هو تتبيط الناس عن الحرب ، وتزهيدهم فى الخروج إليه ، بأقوال وأفعال ، وعلى هذا فإن فى التخذيل مع الناس من النهوض للقتال ، والإرجاف أعم من التخذيل () .
الأدلة :
1 ) من القرآن الكريم : وقال الله – عز وجل – : ” لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ” () .
وجه الدلالة : لنغرينك بهم : لنسلطنك عليهم فستأصلهم بالقتل () .
والمنافقون : جمع منافق ، وهو الذى يظهر الإسلام ويخفى الكفر ، والذين فى قلوبهم مرض : هم قوم ضعاف الإيمان ، قليلو الثبات على الحق .
والمرجفون فى المدينة : هم الذين كانوا ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الا
أكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس ، وأصل الإرجاف ، التحريك الشديد للشئ ، مأخوذ من الرجفة التي هى الزلزلة ، ووصف به الأخبار الأخبار الكاذبة ، لكونها فى ذاتها متزلزلة غير ثابتة ، أو لإحداثها الاضطراب فى قلوب الناس .
وقد سار بعض المفسرين على أن هذه الأوصاف الثلاثة ، كل وصف منها طائفة معينة ، وسار آخرون على أن هذه الأوصاف لطائفة واحدة هى طائفة المنافقين ، وأن العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات .
قال القرطبي : قوله : ” ولئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم وهن ، والمرجفون فى المدينة ” ، أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد – والواو مقحمة .
وقيل : كان كل منهم قوم يرجفون ، وقوم ينجون الإشاعات للريبة ، وقوم يشككون
المسلمين .
وقال صاحب الكشاف على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين ، فقال : ” والذين فى قلوبهم مرض ” قوم كان فيهم ضعف إيمان ، وقلة ثبات عليه .
والمرجفون فى المدينة : ناس كان يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله – – فيقولون : هزموا وقتلوا وجرى عليهم كتب وكتب ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين .
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفة عما يؤلفون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن نفعل بهم الأفاعيل التى تسوءهم () .
وقوله : لنغرينك بهم ” : جواب القسم ، أى : لنسلطنك عليهم فنستأصلهم بالقتل والشريد ، وقوله : ” ثم لا يحاورنك فيها إلا قليلا ” .
معطوف على جواب القسم ، أى : لنغرينك بهم ثم لا يتقون بعد ذلك مجاورين لك فيها إلا زمانا قليلا ، يرتحلون بعده بعيدًا عنكم ، لكى تبتعدوا عن شرورهم .
وجاء العطف بمّ فى قوله ” ثم لا يجاورنك فيها ” للإشارة إلى أن إجلاءهم عن المدينة نعمة عظيمة بالنسبة للمؤمنين ، ونقمة كبيرة بالنسبة لهؤلاء المنافقين وأشباههم .
وقوله ” ملعونين أينما ثقفوا ” أى مطرودين من رحمة الله – تعالى – ، ومن فضله ” أينما وجدوا فظفر بهم المؤمنون ” .
ومعنى ” ثقفوا ” بمعنى : وجدوا وقوله ” أخذوا وقتلوا تقتيلا ” بيان لما يحيق بهم من عقوبات عند الظفر بهم ، أي : هم ملعونون ومطردون من رحمة الله بسبب سوء أفعالهم ، فإذا ما أدركوا فظفر بهم ، أخذوا أسارى أذلاء ، وقتّلوا تقتيلا شديدا ، وهذا حكم – تعالى – فيهم حتى يقلعوا عن نفاقهم وإشاعتهم مقاله السوء فى المؤمنين .
2 ) من السنة النبوية : ما روى ” بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ناسا من المنافقين يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك ، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله – رضى الله عنه – فى نفر من أصحابه ، وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت ، ففعل طلحة ذلك .
3 ) أحكام فقهية ذات صلات وعلاقات :
أ ) لا يجوز لقائد الجيش – وكذلك الشرطة المدنية – استصحاب أحد من المرجفين فى الجهاد – والرباط والحراسة وما أشبه – قال الله – عز وجل – : ” وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {46} لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكم يبغونكم الفتنه
تأسيسا على ما ذكر :
1 ) يحرم نشر وبث الأخبار الكاذبة ، والإشاعات الضارة بحق الجيش والشرطة المدنية وكل من يقوم بمهام الجهاد المشروع والرباط والحراسة وما أشبه .3
2 ) سنت الشريعة الإسلامية عقوبات زجرية تعزيرية لولى الأمر ( الحاكم ) تنفيذاً ومن يفوضه ( الهيئة القضائية ) أحكاما ، و ( الهيئة العلمية الإفتائية ) استشارة ، منها :
1- الحكم بقتل المرجفين ( جزاء وفاقا ) .
2- الحكم بنفيهم عن البلاد ، ويشابهه : إسقاط الجنسية والمواطنة فى التطبيق المعاصر .
3- استحقاق المرجفين الطرد من رحمه الله – تعالى – أينما كانوا متمالئين على الجيش ومن يناظره فى داخل البلاد وخارجها .
4- وجوب حماية وصيانة الجيش ومن يشابهه من أعمال ومهام من معوقات أهل الفتن والسعايات
5- ريادة التشريع الإسلامى بالتدابير الوقائية الاحترازية والزجرية للأمن القومى .
والله – عز وجل – ولى التوفيق .