أراء وقراءات

جماجم عبد الوهاب البياتي .. متنوعة ومتعددة الأغراض

بقلم /ماجد مكي الجميل 

إستجابة لدعوة من منبر ثقافي ينتمي لـ ”المنتدى العراقي للنخب والكفاءات”، لمناقشة مقال قصير يتعلق بعبد الوهاب البياتي كتبه، حميد قاسم، أدلي هنا بما عرفته شخصيًا بالملموس عن البياتي، تاركًا كل ما قرأت أو سمعت عن هذا الشخص، ففي ذلك كثير من الصدق والكذب يصعب الفرز بينهما.

أتذكر جيِّداً خلال المد الشيوعي في العراق – بدأ في خريف 1958، وبلغ أوجه عام 1959 واستمر لسنوات تالية – أني قرأتُ – أنا بنفسي – قصيدة لعبد الوهاب البياتي، يدعو فيها السلطة أن تجعل من ”جماجم الرجعيين منافض للسكائر”.

لكن أين قرأت هذه القصيدة، التي إكتسبت شهرة سريعة بعد أن أخذ الناس يتداولونها ذماً أو مدحاً، فهذا ما لا أستطيع أن أقرره الآن وقد مضى على ذلك أكثر من ستين عامًا. قد يكون ذلك، إما في جريدة ”إتحاد الشعب” الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي – سلف ”طريق الشعب” في السبعينات – أو ربما في الثقافة الجديدة، أو في مجلة ”١٤ تموز” الثقافية التي كان، ذو النون أيوب، يرأس تحريرها، أو في أي مطبوع مؤيد للشيوعيين في ذلك الوقت.

إستشهدتُ بهذه القصيدة في مقال كتبته على صفحتي في الفيسبوك بتاريخ 14 شباط/فبراير 2021، ردًا على مقال نشرته السيدة، هيفاء زنكنة، في صحيفة القدس العربي، قبل أيام من ذلك، تُهاجم فيه ثورة 14 رمضان 1963 بعنف، قد لا يقل عن عنف ”جماجم البياتي”.

في الواقع، أخفقتُ في عدة محاولات أجريتها اليوم على الشبكة العنكبوتية للعثور على قصيدة ”جماجم الرجعيين منافض للسكائر”، التي يُمكن أن تؤشر إلى اللبنات الأولى لتأسيس العنف في العراق الحديث. لكن مع إصراري في العثور على القصيدة، عبر قراءة عديد من المقالات على الشبكة، وجدتُ أمرًا مثيرًا، لا أعرف إن كانَ يدعو للضحك أم الحزن:

عقب تأليف الكاتب الروسي، لويس باسترناك، رواية ”دكتور زيفاغو”، وهو ما اعتبره الحزب الشيوعي السوفيتي بمثابة إنشقاق عن الدولة والنظام، كتبَ عبد الوهاب البياتي، خلال وجوده في موسكو ملحقًا ثقافيًا للعراق، قصيدة ضد باسترناك، نشرها في ديوانه ”كلمات لا تموت”، يقول فيها:

”يا أخوتي الخضر العيون،

أننا سنجعل من جماجم سادة البترول والعملاء المتآمرين،

لعبًا لأطفال الغد الضاحكين،

فليصنعوا ألف زيفاكو وآلاف الدمى،

ومُزيفي التاريخ والمتهرئين،

إنََا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر”.

إذن، ”جماجم الرجعيين” في العراق، عند البياتي، تصلح أن تكون ”منافض للسجائر”، و ”جمجة باسترناك والعملاء والمتآمرين” في روسيا، ”لعباً لأطفال الغد”، قبل أن يعود مرة أخرى في حنين واضح إلى ”منافض السجائر” لتكون مادتها جماجم مُزيفي التاريخ والمتهرئين…الخ. لكن السؤال: كيف سمحت سلطة 14 تموز، وتحديدًا رئيس الوزراء، عبد الكريم قاسم، أن يُعيِّنَ شخصًا يريد أن يجعل من جماجم جزء من الشعب العراقي ”منافض للسكائر”؟ أيا كان نوع الجواب، فإنه سيكشف عن بداية تأسيس العنف في العراق الحديث.

لا أظن أن هناك من داع للقول أن ”جماجم الرجعيين” في العراق عند البياتي هي جماجم المنتمين للتيار العروبي القومي والبعثي عمومًا. بمعنى آخر، ”الدواعش” في مصطلحات اليوم.

وردت قصيدة البياتي أعلاه، في مقال للدكتور، ضياء نافع، عنوانه ”عبد الوهاب البياتي في روسيا”، نشره في موقع ”صحيفة المثقف” (العدد 2345 السبت 2 كانون الثاني/يناير 2013) – تجدون الرابط في ختام هذا المقال.

أظن أن لهذا المقال مصداقية تأتي من كون الكاتب كان طالبًا يدرس في موسكو خلال وجود البياتي ملحقًا ثقافيًا في الإتحاد السوفيتي (بين 1959 و 1963). يروي الدكتور، ضياء نافع، كثيراً من إنطباعاته عن اللقاءات التي كان البياتي يجريها مع الطلبة العراقيين الدارسين في موسكو.

يروي أيضًا قصصا أخرى، بعضها مُضحك، على سبيل المثال: كان البياتي وغائب طعمة فرمان، في مصعد أحد الفنادق، عندها دخل إلى المصعد مواطن روسي يعرف الإثنين، قال: ”الطقس اليوم في موسكو لطيف”، أجابه البياتي ”شكرًا”، معتقدًا أن الروسي سأله ”كيف أحوالكَ”؟ يقول، ترك البياتي موسكو بعد خمس سنوات (1964) دون أن يتعلم اللغة الروسية، على الرغم من أن منصبه يحتم عليه ذلك. يؤكد أيضًا أنه لم يكن يعرف الإنكليزية.

يتضمن المقال تحليلاً لشعر البياتي، وما فيه من ركاكة ونفاق. يقول أن إحدى قصائده خاطبت جريدة ”برافدا” في الذكرى الخمسين لتأسيسها عام 1962 بالصيغة التالية: ”أنتِ [يعني الصحيفة] بروجكتور … أنتِ برتقالة”. يضيف: هذا الكلام أثار سخرية الطلبة العراقيين ”لمدة طويلة”. يُشير، الدكتور، ضياء نافع، إلى أن البياتي هو الشاعر العربي الوحيد الذي نُشِرت اشعاره آنذاك على صفحات جريدة ”برافدا” الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي.

تأتي مصداقية أخرى للمقال من أن كاتبه ليس على خلاف فكري أو عقائدي مع البياتي، إذ أنه وصف ثورة 14 رمضان بـ ”إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963”.

أمر مثير آخر يكشفه المقال: أن البياتي رفضَ، ”في وقت لاحق”، أن يُدخل قصيدته التي تجعل من جماجم باسترناك وأمثاله ”لعبًا لأطفال الغد الضاحكين”، ضمن أعماله الشعرية عندما أعاد طبع ديوانة ”كلمات لا تموت”.

لم يحدد الكاتب بالضبط تاريخ هذا ”الوقت اللاحق”، أي منعه القصيدة من مضمون ديوانه بطبعته الجديدة. لا نعرف، إن كان ذلك مع بدء ”البيريسترويكا” و ”الغلاسنوست”، حيث سمح الإتحاد السوفيتي نشر رواية ”دكتور زيفاغو” عام 1987، أم قبل ذلك.

لا نعرف أيضًا، إن كان البياتي قد شطب ”جماجم الرجعيين” – في عراق نهاية الخمسينات – من ديوانه في نسخته الجديدة أم لا؟ لا أستبعد شطبها، خاصة إذا علمنا أنه بعد موسكو في زمن عبد الكريم قاسم، تولى البياتي مراكز وظيفية جيدة في وزارة الثقافة العراقية منذ بداية السبعينات حتى 1991.

22 حزيران/يونيو 2022

ماجد مكي الجميل

كاتب صحفي عراقي مقيم في سويسرا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.