خطبة الجمعة الموافق 25 نوفمبر 2022…..الكسب الحلال
إعداد/الدكتور عبد المنعم ابراهيم عامر.
الأسباب التي دفعتني للحديث في هذا الموضوع :-
أولاً: لأننا في زمان لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ»().
ثانياً: لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الْإِسْرَاء: 64] قِيلَ: الْمُشَارَكَةُ فِي الأَمْوَالِ: اكْتِسَابُهَا مِنَ الْحَرَامِ، وَإِنْفَاقُهَا فِي الْمَعَاصِي، وَفِي الأَوْلادِ: خُبْثُ الْمَنَاكِحِ، وَقَالَ الأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ: ادْعُهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِثْلَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَأَوْلادِ الزِّنَا().
ثالثاً: لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين قال تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي فِعْلِهِ ذَلِك.
رابعاً: لأن كَسْبُ (طَلَبُ) الْحَلَالِ وَاجِبٌ وفَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ:
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ – ﷺ – قَالَ: ” «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ”
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ للْكَسْبِ:
أولاً: بيان ذلك من القرآن:
1- قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 168]
هذا خطاب للناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب، وثمار، وفواكه، وحيوانات، حالة كونها {حَلالا} أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة، ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.
{طَيِّبًا} أي: ليس بخبيث، كالميتة والدم، ولحم الخنزير، والخبائث كلها، ففي هذه الآية، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة،
قال تعالى:{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [المائدة: 88]
3- قال تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
ثانياً: بيان ذلك من السنة:
طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ” «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
فطَلَبُ الْحَلاَل فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ () ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالأَْكْل مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، وَقَال فِي ذَمِّ الْحَرَامِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ”
الترغيب في الكسب الحلال:
تحري الحلال شرط في قبول الأعمال (الصدقة نموذجاً)
قبول الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَتَرْبِيَتِهَا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ»().
الترهيب من الْكَسْبُ الْخَبِيثُ وَمَصِيرُهُ:
عدمُ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الخبيث:
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ”
عدمُ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الخبيث وإصره على المتصدق:
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ جَمَعَ مَالًا حَرَامًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ، وَكَانَ إِصْرُهُ عَلَيْهِ.
.وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا، وَإِلاَّ إِلَى الْفُقَرَاءِ.
الأُمور المعينة على الكسب الحلال:
1- الحرص على صلاح القلب:
لحديث أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ:(إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس، ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً. أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) ().
إن صلح هذا القلب، فإنه لن يأمر إلا بما فيه الخير وسيصلح الجسد كله.
وإن فسد، فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة والله ولى التوفيق.
وبالجملة: فهذا حديث عظيم جليل، وقاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الشريعة، عليه لوائح أنوار النبوة ساطعة، ومشكاة الرسالة مضيئة، فهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.
اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ:
وَنقل بن الْمُنِيرِ فِي مَنَاقِبِ شَيْخِهِ الْقَبَّارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
الْمَكْرُوهُ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحَرَامِ فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَكْرُوِهِ تَطَرَّقَ إِلَى الْحَرَامِ
وَالْمُبَاحُ عَقَبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِ فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ تَطَرَّقَ إِلَى الْمَكْرُوِهِ وَهُوَ مَنْزَعٌ حَسَنٌ وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة بن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ ذَكَرَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ: ( اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْبِ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.
دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ:
عَنْ أَبِي الحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ»
تَرْكُ مَا يُشَكُّ فِيهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْوَرَعِ :
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ مَرْفُوعًا: ( لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ فَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ.
عدم سماع الكذب:
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} والسمع هاهنا سمع استجابة، أي: من قلة دينهم وعقلهم، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب.
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي: المال الحرام، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات والرواتب، التي بغير الحق، فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام.
وَرَعُ الصَّالِحِينَ عَنْ الْحَرَام:
وَعَنْ أُمِّ عَبْدِ اللهِ أُخْتِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ – رضي الله عنها – قَالَتْ: بَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِقَدَحِ لَبَنٍ عِنْدَ فِطْرِهِ – وَذَلِكَ فِي طُولِ النَّهَارِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ – ” فَرَدَّ إِلَيَّ رَسُولِي: أَنَّى لَكِ هَذَا اللَّبَنُ؟ ” , فَقُلْتُ: مِنْ شَاةٍ لِي، ” فَرَدَّ إِلَيَّ رَسُولِي: أَنَّى لَكِ هَذِهِ الشَّاةُ؟ ” , فَقُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ مَالِي، ” فَشَرِبَ ” , قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ مَرْثِيَةً لَكَ (). مِنْ طُولِ النَّهَارِ , وَشِدَّةِ الْحَرِّ , فَرَدَدْتَ إِلَيَّ فِيهِ الرَّسُولَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” أُمِرَتِ الرُّسُلُ قَبْلِي أَنْ لَا تَأكُلَ إِلَّا طَيِّبًا , وَلَا تَعْمَلَ إِلَّا صَالِحًا.