دفاعاً عن السنة المطهرة والفرق بين الآحاد والمتواتر
بقلم / حاتم السروي
من المعروف بالضرورة عند المسلمين أن السنة الشريفة هي المصدر الثاني للتلقي بعد كتاب الله عز وجل، وأصل معنى السنة في اللغة العربية هو الطريقة، يقال سن فلان سنةً أي سلك طريقًا يُقْتَدَى به فيها، وبهذا المعنى وردت في الحديث الشريف الذي يقول فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: ” من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة” والحديث في صحيح مسلم، أما في الاصطلاح فالسنة عند الفقهاء هي ما أُوثِر عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير يقصد به التشريع، فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه بشراً كالأكل والنوم والشرب، أو ما ثبت بالدليل أنه يختص به كالوصال في الصوم أو الجمع بين أكثر من أربعة نسوة فهذا ليس من السنة في عرف الفقهاء، وهذا ما أوضحه لنا الدكتور الفاضل/ أحمد فراج حسين، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق/ جامعة الإسكندرية، في كتابه “المدخل للفقه الإسلامي- تاريخ الفقه الإسلامي- الملكية ونظرية العقد” صـ 99، والكتاب صادر عن (منشورات الحلبي الحقوقية/بيروت-لبنان/ سنة 2002).
والسنة عند علماء الحديث: كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو صفة خِلقيَّة أو خُلُقيَّة، وهذا التعريف لا خلاف عليه بين أهل العلم بالحديث، كما يوضح ذلك لنا الأستاذ الفاضل المحقق/ عادل عبد المنعم أبو العباس في مقدمته على كتاب “الباعث على إنكار البدع والحوادث للسيد أبو شامة الشافعي رحمه الله” صـ 8، طبعة مكتبة ابن سينا، سنة 1989م.
وتأتي السنة أيضاً في مقابل البدعة، فتكون السنة بمعنى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون البدعة هي ما استحدثه الناس بعده ولم تكن من عمله ولا وجه إليها ولا أمر بها كما في حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من نبيٍ بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل” رواه مسلم. وعن عمرو بن عوف مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” من أحيا سنةً قد أُمِيتَت بعدي فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها لا ينقص من أجور الناس شيئا، ومن ابتدع بدعة ً لا يرضى بها الله ورسوله فإن عليه إثم من عمل بها من الناس لا ينقص من آثام الناس شيئا” رواه الترمذي وقال عنه حسن، وأيضاً رواه ابن ماجة في سننه وهذا اللفظ له.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآنف ذكره: ” ومن ابتدع بدعةً لا يرضى بها الله ورسوله” فيه إشارة لا تخفى أن هناك من البدع ما لا يخالف أمر الله ورسوله، ولذلك قال الشافعي رحمه الله فيما أورده الشيخ أبو شامة الشافعي في كتابه المذكور: ” البدعة بدعتان: بدعةٌ محمودة وبدعةٌ مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمرٍ رضي الله عنه في قيام رمضان “نَعِمَت البدعة” وهذا في الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه بكتاب صلاة التراويح، باب فضل قيام رمضان، ولفظه عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: “خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرَّهَط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل. ثم عَزَمَ فجمعهم على أُبَيَّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلةً أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نِعْمَ البدعة هذه” وأخرج هذا الحديث أيضًا الإمام مالك بن أنس في كتاب “المُوَطَّأ” برواية محمد بن الحسن، والحديث فيه برقم 241 في باب قيام رمضان”.
وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي رحمه الله تعالى: المُحْدَثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحْدِثَ مما يخالف كتاباً أو سنةً أو إجماعًا أو أثرًا فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أُحْدِثَ من الخير لا خلاف فيه لواحدٍ من هذه، فهي محدثةٌ غير مذمومة. وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: “نَعِمَت البدعة هذه: يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها ردُّ لما مضى. ويعلق أبو شامة بقوله: قلت وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حَثَّ على قيام شهر رمضان وفَعَلَهُ في المسجد، واقتدى فيه بعض الصحابة ليلةً بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه خشي أن يُفرض عليهم، فلما قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِنَ ذلك، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على فعل قيام رمضان في المسجد جماعةً لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع صلوات الله وسلامه عليه وفعَلَهُ وحثَّ عليه ورَغَّبَ فيه، والله أعلم”. (انظر المرجع السابق ذكره صـ 35،36).
وأصل البدعة في اللغة هو الاختراع على غيرمثالٍ سابق، ولهذا يقال على الشي الفائق في جماله وجودته: ما هو إلا بدعة، وفي سورة الأحقاف الآية 9 يوجه ربنا سبحانه وتعالى نبيه الكريم فيقول: “قل ما كنت بِدعًا من الرسل” أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض، ويقول تعالى عن نفسه في سورة البقرة آية 117: “بديع السماوات والأرض” أي خلقهن من العدم على غير أصلٍ سبق، لكن الغالب على كلمة “البدعة” أنها تعني الحدث المكروه في الدين بحيث إذا قيلت انصرف الذهن تلقائياً إلى كل اختراعٍ باطل يضر الناس في دينهم ولا ينفعهم، ومثلها كلمة المبتدع” فهي لا تكاد تأتي إلا في موضع الذم. وفي كتاب صِحَاح اللغة للجوهري: البدعة: الحَدَث في الدين بعد الإكمال. وقد صنف الشيخ الفقيه أبو بكر الطرطوشي رحمة الله عليه كتاباً سماه “الحوادث والبدع” ويحمل فوائدًا جَمَّةً على صغر حجمه، وفيه يبين لنا المصنف ما هي البدعة من حيث اللغة والشرع.
ومن كل ما سبق يتبين لنا ضرورة الاعتناء بالسنة المطهرة لعلم الفقه والتشريع والعقائد وسائر ما يهم المسلمين في دينهم، إذ لا خلاف بين العلماء المعتبرين الذين يُعْتَدُّ بكلامهم أن السنة أصلٌ من أصول التشريع، ويجب قطعًا أن يأخذ بها المسلمون ويعملوا بمقتضاها “ومن يطع الرسول فقد أطاع الله” سورة النساء آية 70، أما في سورة الحشر الآية 7 فيقول ربنا عز شأنه: “وما آتاكمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة قال صلى الله عليه وسلم: ” فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة” وروى البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به” وهو حديثٌ صحيح كما أخبرنا الإمام النووي رحمه الله.
والسنة في حجيتها على المسلمين ووجوب الأخذ بها في الأحكام سواء فلا فرق بين المتواتر والآحاد والمستفيض، وهي تقسيمات أوجدها المحدثون والفقهاء بحسب رواية الأحاديث، فعلم الحديث يشمل الرواية والدراية، ومن حيث الرواية ينقسم الحديث إلى:
1- متواتر: وهو ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمعٌ كبير من الصحابة يستحيل تواطئهم على الكذب- فالجمع الكبير لا يكذب عادةً- ثم رواها عن هذا الجمع من الصحابة جمعٌ من التابعين يستحيل أيضًا بحكم العادة أن يتواطئوا على الكذب، والأمر نفسه لابد أن ينطبق على من رواه عن التابعين من تابعيهم، فالمعتبر في التواتر هو تحقق الجمع الذي يستحيل معه الكذب في كل طبقة من طبقات الرواة، وبهذا يكون المتواتر في أعلى درجات الصحة..ويقول الدكتور/ أحمد فراج حسين في كتاب المدخل للفقه الإسلامي الذي مر ذكره وتحديداً في الصفحة 100: ” ولا يشترط أن يكون هذا الجمع عدداً معينًا على أصح الأقوال، وإنما المدار على حكم العقل بأن الرواة يستحيل تواطؤهم على الكذب بالنظر إلى العادة. والسنة المتواترة كثيرة بالنسبة للسنة الفعلية كالسنن التي رويت في كيفية الوضوء والصلاة والحج. أما السنة القولية فالمتواتر منها قليلٌ جداً على الراجح، ومنها حديث: “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار”.
ويوضح لنا الدكتور أحمد فراج أن التواتر نوعان: لفظي ومعنوي، فاللفظي أن يكون ما يرويه كل واحد متفقٌ مع ما يرويه الآخرون في اللفظ والمعنى، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار” فإن هذا الحديث رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة صحابي.
2- آحاد: وهو الحديث الذي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم عددٌ من الصحابة لا يبلغ حد التواتر، ورواه عنهم من التابعين وتابعيهم عددٌ لا يبلغ هذا الحد أيضًا. وغالب السنة من هذا النوع، فلو رفضناه لرفضنا ثلاثة أرباعها.
3- الحديث المشهور، ويسمي أيضًا بالمستفيض: وهو في الأصل ما رواه عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واحد فقط أو اثنان من الصحابة أو جمعٌ منهم لم يبلغ حد التواتر، ثم تواتر الحديث في عهد التابعين وتابعيهم، وذلك مثل حديث: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى” فهذا الحديث رواه عن رسول الله سيدنا عمر بن الخطاب، ثم رواه عن سيدنا عمر جمعٌ من التابعين بلغ حد التواتر، ورواه عنهم جمعٌ من تابعي التابعين بلغ أيضًا حد التواتر. وبهذا يكون الفرق بين الحديث المتواتر والمشهور أن الأول فيه الجمع الكثير الذي يستحيل بحكم العادة تواطؤ من فيه على الكذب في كل طبقاته، أما الثاني فإن الجمع لا يوجد في الطبقة الأولى بل في الطبقتين الثانية والثالثة.. وهذا التقسيم للسنة ما بين متواتر وآحاد ومشهور هو تقسيم فقهاء المذهب الحنفي، أما الجمهور فالسنة عندهم تنقسم إلى متواتر وآحاد فقط، والمشهور عندهم يدخل في نطاق الآحاد.
وهذه الأقسام الثلاثة التي وضحناها لا فرق بينها في وجوب الأخذ بها في الأحكام الفقهية، فالمتواتر يجب الأخذ به فوراً دون توقف لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه اليقين فهو كالقرآن في إفادة وجوب العمل به، فإن دل لفظ الحديث المتواتر على معنى واحد فقط لا يحتمل غيره فهو بهذا قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وإذا احتمل أكثر من معنى فهو ظني الدلالة. ويقترب من المتواتر الحديث المشهور وهو وإن كان لا يفيد اليقين الجازم كالمتواتر إلا أنه يفيد الطمأنينة والظن الأقرب إلى اليقين، وهذا عند من قال أن ما دون المتواتر لا يفيد إلا الظن.
والآحاد إن صح سنده ولم يضطرب متنه يؤخذ به فقهياً، وإن اجتمع في الباب الفقهي الواحد حديثين أو أكثر ظاهرهم التناقض فيما بينهم فيمكن الجمع بين هذه الأحاديث أو النظر للناسخ منها والمنسوخ والمطلق منها والمقيد بحالة خاصة في وضعٍ معين، وكل هذا يعرفه الفقهاء جيداً ولا مجال هنا لبسطه.
أما الإشكال الذي ثار قديماً بين العلماء فهو حول حجية حديث الآحاد في العقائد، وقد اختلف العلماء في هذا على قولين كما يخبرنا الشيخ أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه “إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان” فالجمهور على أن الآحاد لا تفيد إلا الظن فلا يؤخذ بها في العقائد، وأما أحمد بن حنبل وابن حزم وابن خُوَيْز منداد المالكي فعندهم أن خبر الواحد العَدْل يفيد بنفسه العلم اليقيني النظري مطلقاً، وروى ابن خويز منداد هذا القول عن الإمام مالك، كما حكاه ابن حزم عن داود بن علي الأصبهاني إمام الظاهرية.. وذهب الآمدي وابن الحاجب وابن السبكي والحافظ ابن حجر الملقب بأمير المؤمنين في الحديث في كتابه ” نزهة النظر في نخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر” كل هؤلاء ذهبوا إلى إفادة حديث الآحاد للعلم إذا انضمت إليه القرائن. وهذا هو المختار عند الشيخ أبو الفضل الغماري، والقرائن التي تجعل حديث الآحاد مفيداً للعلم كما بينها هي: 1- إذا ورد الحديث عند الشيخين البخاري ومسلم..2- الحديث المشهور أو المستفيض الذي مر بنا معناه..3- الحديث المسلسل سنده بالحفاظ الأئمة، يعني الذي رواه إمام حافظ عن إمام حافظ..وهكذا.
والذين يرون إفادة حديث الآحاد للعلم مطلقاً يأخذون به في العقائد ويستندون إليه فيما يتعلق بالله ورسله وملائكته والقضاء والقدر والحشر وما يتبعه والصفات، ومن هؤلاء كما قدمنا الإمام أحمد بن حنبل وابن حزم، وينضم إليهما البخاري ومسلم والحاكم صاحب المستدرك وابن خزيمة، وهذا الرأي هو المختار عمومًا عند أهل الحديث. (انظر كتاب إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان للشيخ العلامة أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري وهو مغربي الجنسية وفي نفس الوقت من كبار علماء الأزهر الشريف الذي دَرَس به/ طبعة المكتبة الأزهرية للتراث عام 2018/ صـ72-74).
بقي أن نؤكد أن جميع العلماء باختلاف مشاربهم يتفقون على وجوب الأخذ بخبر الواحد المعصوم، ومن هو الواحد المعصوم؟ إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هناك معصومُ غيره في الأمة؟!..وبكل ما قدمناه إن شاء الله يزول اللبس عند البعض وتنحل إشكالاتهم حول السنة المهطرة التي أمرنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بالاستناد إليها والاعتماد عليها والتمسك بها فهي بغير شك واحة الحياة وسفينة النجاة.