محمود شاب تمنى الشهادة في سبيل الله فاختاره الله لجواره
الشهيد يوصي أمه باللباس الابيض والزغاريد عند استقبال جثمانه
بقلم / الدكتور محمد النجار
يتألم القلب عندما يفقد انسانا عزيزا عليه ، فما بال ذلك الانسان الذي يفقد أحد الأبناء ،فيحزن القلب وينفطر حزنا ، ويطيش الصواب نتيجة الصدمة المذهلة لفقدان الابن أو البنت ، ولولا الايمان بالله فإن فقدان الابن قد يتبعه فقدان حياة والديه ، ولولا الأمل في لقاء الأحبة عند الله لكان الموت أسهل طريقة في التخلص من الاحزان . فالموت قدر على كل انسان مهما تعددت الاسباب ، والموت طريق الرحيل من عالم الفناء الى عالم النعيم والبقاء.
ويخفف الله سبحانه وتعالى الكثير من الحزن على الاباء الامهات خاصة عند يختار أحد ابنائهم الى جواره شهيدا في سبيله . وتجلى ذلك بوضوح في الصبر التي نراه على الكثير من أمهات واباء الشهداء الذي ضحوا بحياتهم لحماية وطنهم .ونراه في الهدوء والسكينة عند تلقي نبأ استشهادهم وعند استقبال جثامينهم لتشييعها . فجميعنا يصدق وعد الله بأنهم “أحياء عند ربهم يرزقون “.
وقد تحدثت أم الشهيد محمود المغربي إلى ( وضوح ) لتروي قصة شاب بار بوالديه ، وبار بإخوته واصدقائه وزملائه . قالت :َفَرِحْتُ بولادته لأنه مولودي الأول وأول فرحة لي ، كما استبشرت بمولده في يوم الجمعة ..ولم تتمالك دموعها عندما انفجرت باكية : واستشهد يوم الجمعة ايضا ، وياله من يوم استبشرتُ به في ولادته .. وياله من يوم حزنت عليه في استشهاده .انه الضابط الشاب محمود محمد المغربي الذي استشهد في بئر العبد كمين التفاحة بسيناء يوم الجمعة27-09-2019.
وتستطرد الأم : تم تربية محمود وإخوته على حب دينهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم ومقدساتهم ، وحب وطنهم . فكان محمود دائما ما يحصل على جائزة الطالب المثالي من الابتدائى لسمو أخلاقه ،وهدوء نفسه ، كان طفلا وديعا هادئا لا يتكلم بصوت عال ولا يتدخل فى حوار إلا إذا وجهت له سؤال .
طفل منتظم في صلاته ويوم الجمعة يذهب واخوه مع والدهم للمسجد.
وَشَهِدَ له زملاؤه في الكلية : انه كان يشجعهم على الصلاة ، وفى اجازاته كان يصلى فى المسجد. وقسما بالله كان يصلى الفجر حاضر ، والمسجد اسفل عمارتنا .
وكان متفوقا علميا واخلاقيا في دراسته الابتدائية والاعدادية ويحصل على شهادات تقدير و جوائر.
رؤية والدته :
تقول والدته كنت احبه حبا جما وأخاف عليه ، وفي ليلة رأيته في المنام رؤية أرعبتني وهو صغير ، رأيت أنه دخل قبرا ، وظللت أنتظره طويلا لكنه لم يخرج ، واستيقظت مفزوعة من تلك الرؤيا واستعذت بالله منها ، لكن من وقتها ازداد خوفي عليه ، وظلت تلك الرؤيا عالقة في قلبي وتطاردني في حياتي .
الكلية الحربية .. حِلْم محمود :
عندما وصل محمود للثانوية العامة ، كتب بكل ثقة على جدران غرفته ” الكلية الحربية” إن شاء الله. انخطف قلبي عندما رأيت تلك الكلمات ، وكتمت في قلبي لكن تلك الرؤية عادت لوجداني بشدة من جديد ووجعني قلبي خوفا عليه ، وحاولت مطاردة تلك الرؤيا وأقنع نفسي بأن ماكتبه ليس سوى أمنية وربما لاتتحقق لأي سبب من الأسباب.
وعندما حصل على الثانوية العامة لم يتردد في التقديم للكلية الحربية ، ولانه كان نقى النفس مخلصا لله كانت دعوته مستجابة ، وكيف لا وهو إنسان مؤدى فرض ربه من صغره يحب الجميع ويكره الظلم ، فاعطاه ربه ما تمنى ، وتم قبوله في الكلية الحربية .
فى ذلك الوقت كان احساسى كأم مشتت افرح وأبكى ، فرحانه لفرح ابنى ، وخايفه عليه وأبكى من المنام خشية من فقدان ابني ، لدرجه الخوف والهلع بعد أن تخرج من الكلية الحربية ، واستلم عمله في الاسماعيلية ، كان يسافر وعندما يرجع اجازه كنت اتهلل فرحا وارتياحا أنه رجع بالسلامة ، لكن عند سفره ومغادرته البيت أبكى وأتكدر ويزعجني نداء في قلبي اسمعه يقول لي : “ابنك محمود شهيد وأرى أمامي صورة القبر الذي رأيته له في المنام”.
فكنت أودعه بدموع قلبي الموجوع واتحسس يده وذراعه وأحضنه بقلبي وادعو الله أن يحفظه وأن يعود لي سالما ، وأُعيذه بالله من الشيطان ، ثم استودعه الله .
يوم استشهاده :
تقول والدته : فى ليلة استشهاده كان يوم الخميس بالليل كلمته كالعاده وطبعا مكنتش اعرف انه فى سيناء ،وكنت متعوده أكلمه بالليل عشان طبيعه عمله بالنهار.
كلمته : السلام عليكم ورحمه الله .
عامل ايه يا قلب امك
قالى الحمد لله
جاى امته قالى أن شاء الله يوم السبت او الاحد بكتير
قولتله : اتعشيت؟؟؟ طبعا زى اى ام بتحب تطمأن على ابنها
قال : الحمد لله
قولتله مال صوتك همدان كدا
قال :عاوز انااااااام
قولتله نام يا قلب أمك تصبح على الف خير يا ضنايا
ثم ودعته وقلت له : لا إله إلا الله
رد قائلا : محمد رسول الله
ودى كانت اخر مره سمعت صوت ضنايا
ذكرى لن تنسى ما حييت
في يوم الجمعة 27 سبتمبر 2019 كنا فاتحين التليفزيون وكان احتفال برجوع الرئيس من امريكا ، اتفرجنا شويه وقفلناه ، لكن الساعة 4 ، جاتنى جارتى لكن شكلها زعلان ومش طبيعتها ، شويه وقالت لي : افتحى النت ، قلت لها : كلامك غريب فيه ايه؟؟
قالت لي : خلينا نتأكد ..إهدي شوية
وتستطرد والدة الشهيد : قسما بالله عرفت ان محمود ابنى استشهد واتحققت الرؤية.
وجاء كل سكان العمارة والجيران وقالوا : انهم اتصلوا بالمستشفى العسكرى فى القصاصين ، وأخبروهم بوجود شهداء ومصابين ، ويقينا اول شهيد ملازم أول محمود المغربي. وسوف يأتوا به على البلد “عزبه المغربى تلا منوفيه”.
تكريم الشهيد
وصل جثمانه يوم السبت فى صلاه الظهر .
وقسما بالله ابنى ريحته مسك ..سبحان الله
وكانت جنازه عسكريه بحضور المحافظ ونائب وزير الدفاع وكل دفعته
كما كانت جماهير مصر الطيبة تحيط بجثمان ابني الشهيد يرحمه الله ..
وكانت مراسم تشييع بمثابة تكريم من جانب قواتنا المسلحة وقيادتنا كما تفعل مع كل شهداء مصر
وصية الشهيد محمود :
تقول والدته : عند احضار جثمانه ..كان مشهد ابنى لو عريس مكنش بالدرجه دى .
جائنى القائد بتاعه قال لي : محمود موصى والوصية امانة ، تلبسى ابيض وتزغرتى له وهو جاى.. أوعى تعيطى ياأمي الحبيبة …
واقسم هذا القائد بالله انه وصاه وفاضت روحه الى خالقها على : قول لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
وقد أكد صاحبه على نفس هذه الوصية .
ودى كانت قصه ملاك على الارض كان اسمه محمود المغربي
نفسي اشوفه
وتستكمل كلماتها الحزينة : تخيل حضرتك مقدرتش أجمع ملابسه لتخزينها ، وكأن محمود سيعود ، واذا عاد سيجد ملابسه وحاجاته كما هي لم نفرط فيها .أنا انتظر ابني حبيبي ..نعم انتظره .. نفسي اشوفه؟؟
نفسي أشوفه حتى في المنام.. نفسي اشوفك يامحمود ياابن عمري!!
والحقيقة انني المتحدث مع والدة الشهيد لم استطع ان أكتم دموعي ..
سألت والدته : هل كان للشهيد محمود مصحف يقرأ في البيت؟
قالت نعم ، كان له مصحف في البيت يقرأ فيه ، ومصحف صغير في جيبه دائما في الافرول بتاعه يداوم القراءة يوميا فيه، وربما تم دفن مصحفه الصغير معه في الافرول لأن كان عليه دماء من دماء ابني الشهيد ، ولأنهم دفنوا الشهيد في الأفرول الذي استشهد فيه وعليه دمه الطاهر .
سألتها : هل ممكن نستدل على اخر صفحة في القرآن كان يقرأها في مصحفه بالبيت ؟ قالت: انتظر أحضر المصحف بتاعه، وذهبت ورجعت وفي يدها مصحفه ، ففتحت المصحف ووجدنا فيه ورقة كان يضعها عند آخر سورة وقف عليها ، وسبحان الله ، وجدنا الورقة موضوعة على أول سورة غافر. فتهللنا فرحا واستبشارا ، واختلط استبشار أمه بهذه المفاجأة السارة بدموع حزنها التي لاتنقطع على فراقه .
عدو غادر:
تتألم والدة الشهيد وتقول بحرقة : ما يوجعني انه استشهد في مواجهة الارهاب وهو عدو عادر ، عدو مجهول، وهذا هو المؤلم.
لكن عند الله تجتمع الخصوم .
يكفى ابنى امام ربه ينادى: يا رب لى حق عند هذا الذي قتلني ، فاقتص منه .
ابنى ربنا كان راض عنه ، وكافآه بالشهادة التي كان يتمناها.
قلت لها :
هو شهيد .. وشهداء مصر كثيرون ..ودماؤهم لن تضيع..
أبشري يا أم الشهيد محمود حتى لو استشهد غدرا ، فإنما الأعمال بالنيات، وإن الغدر سيعود على اصحابه نكالا ووبالا في الدنيا والاخرة ، أما الشهيد محمود وزملاؤه فكانوا يؤدون عملهم وواجبهم ، ولم يخونوا وطنهم ودينهم ومقدساتهم ، واستشهدوا في سيناء ، تلك الارض المباركة التي تحدث فيها ربنا في علاه مع نبي الله موسى عليه السلام . فهي ارض مقدسة ومباركة وكل شهدائها المؤمنين بالله وكتبه ورسله جميعا والمدافعين عن دينهم ووطنهم ومقدساتهم هم شهداء أحياء عند ربهم يُرزقون.
ولو أي أم شهيد سألت ابنها أن يعود للدنيا ، فلن يرضى لأنه وجد ان ماعند الله اعظم من الدنيا ومافيها ، ونعيم الله أبقى له فهو نعيم لاينفد، وحتما سنلحق بهم وسنراهم فرحين بما أتاهم الله من فضله . وسنفرح لهم على ماهم فيه من النعيم المقيم في روضات رب العالمين
طلب الشهادة بصدق وأكرمه الله بها :
اطلعت على صفحته في الفيس ووجدته كاتبا عليها :
“اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك”
ولقد صدق مع الله في طلبه الشهادة ، فأكرمه الله بالشهادة في سبيله :
“مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ” سورة الاحزاب23
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) سورة ال عمران
وفي الحديث :
عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثِّل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه )
استبشري يا أم الشهيد كأختك الخنساء:
استبشري يا أم الشهيد وكوني كالخنساء التي جمعت أولادها الأربعة عشية الليلة الثالثة من ليالي معركة القادسية لتحرير العراق من الفرس ، فقالت لهم : “يا بَنِي إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وإنكم تعلمون ما أعده الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، ثم سكتت الخنساء قليلا وهي تنظر إلى أولادها الأربعة بعينين أغرورقتا بالدموع ثم تابعت تقول: اعلموا يا أبنائي أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [آل عمران:200]”.
وانتهت المعركة ووصل لها خبر استشهاد ابناءها الاربعة ..فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وشهادتهم في سبيل الله.
اختي المُباركة أم الشهيد محمود :
قومي في الليل الاخير وقفي بين يد الله واركعي واسجدي وادعِ وأكثري في الدعاء لإبنك ولك ولكل زملاءه .. ولأمة محمد بالنصر والفرج القريب..أمة محمد في كرب شديد وتكالب عليها الاعداء ..وتحتاج دعاء المخلصين أمثالك ..وثقي ان دماء الشهداء الانقياء لن تضيع هباء بل ستكون ثمنا للنصر باذن الله الكريم
د. محمد أحمد النجار