ديفيد ميلر.. بروفيسور الجامعة الذي واجه الصهيونية في بريطانيا وانتصر
البروفيسور الإنجليزي خسر معركة وكسب الحرب
كتب – محمد السيد راشد
“الصهيونية ليست حركة يمكن التفاوض معها”، هكذا يقول ديفيد ميلر، البروفيسور الإنجليزي، بعد تجربة طويلة من المواجهة مع أذرع هذه الحركة في بريطانيا. ميلر، الذي عُرف بمواقفه الصريحة ضد الصهيونية، قاد معركة قانونية بعد فصله من جامعة بريستول بتهمة “معاداة السامية”، وذلك بعد إلقائه لمحاضرات تناولت دور الصهيونية في تعزيز الإسلاموفوبيا.
بداية القصة
تبدأ القصة عندما قررت جامعة بريستول تعيين ميلر أستاذًا لعلم الاجتماع السياسي. بخلفيته الأكاديمية المتخصصة في الاستعمار الاستيطاني وتاريخه، بدأ ميلر بإلقاء محاضرات تُبرز آليات الاحتلال وكيفية استخدام الصهيونية للعنف والتمييز لإقامة دولة إسرائيل. هذا التناول أثار حفيظة مجموعات الضغط الصهيونية في بريطانيا، وخاصة بعد محاضرة ألقاها في 2019 حول الإسلاموفوبيا، حيث ربط ميلر بين الحملة ضد الإسلام والمسلمين في الغرب والحركة الصهيونية، مؤكدًا أن الصهيونية لعبت دورًا محوريًا في تعزيز هذه الظاهرة بعد هجمات 11 سبتمبر.
انطلقت ضده حملة واسعة من مجموعات يهودية وصهيونية، التي حاولت تشويه سمعته واتهامه بمعاداة السامية. رغم تلك الضغوط، تمسكت الجامعة بحرية التعبير في البداية، ولكن لاحقًا رضخت للضغوط وفصلت ميلر. ورغم هذه الخسارة، لم يستسلم ميلر وقرر اللجوء للقضاء، حيث استند دفاعه على قانون المساواة الإنجليزي لعام 2010، الذي يحمي المعتقدات الفكرية والفلسفية.
في أكتوبر 2023، انتصرت محكمة بريطانية لميلر، معتبرةً أن معاداة الصهيونية لا تعني بالضرورة معاداة السامية، وأن آراء ميلر تندرج ضمن الحماية القانونية. كان هذا الحكم بمثابة انتصار تاريخي لحرية التعبير ولأولئك الذين عانوا من ممارسات الضغط الصهيوني.
ثغرة في الدرع الصهيوني
هذا الانتصار لم يكن مجرد فوز قانوني لميلر، بل كشف ثغرة في الدرع الصهيوني، وأعطى صوتًا لكل من يشعر بالخوف من مواجهة الصهيونية أو انتقادها.
كانت المخاطرة كبيرة؛ إذ قرر ميلر أن يفوز بكل شيء، أو يتحول إلى مجرد أحمق آخر يحكي داروف وأمثاله قصته على العشاء وهم يضحكون، وفي ذلك إخلاص لمعتقده الذي لا يمل من تكراره؛ الحركة الصهيونية هي العدو الأول للسلام العالمي، ولن نصبح في مأمن حتى تتوقف مجموعاتها وأذرعها عن العمل.
الحصول على حكم بناءً على تلك الحُجة يضرب تعريف الـ”IHRA” لمعاداة السامية في مقتل، ويعني أن فصل ميلر كان تعسفيًّا وشابه تمييز سلبي بسبب معتقداته المعادية للصهيونية، إضافة إلى كونه انتصارًا معنويًّا وماديًّا، والأهم، قانونيًّا، لكل هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم بسبب تصريحهم بآراء ومواقف معادية للصهيونية وسلطة الاحتلال وقمع وإبادة وتهجير الفلسطينيين، تحت ضغط وترهيب جماعات الضغط الصهيونية.
سابقة في تاريخ محاكم العمل الإنجليزية
والأهم، أنه يؤسس للمبدأ كسابقة في تاريخ محاكم العمل الإنجليزية، ويمنح كل ضحايا التمييز الصهيوني صوتًا قويًّا ونَفَسًا جديدًا، يشجعهم على التقدم بمظالمهم لمحاكم العمل استنادًا على ذات الحكم كسابقة قانونية.
هذه الجذرية الأصولية المتجاوزة للحُجج والمبررات والمتاهات والمغالطات المنطقية الصهيونية أثارت جنون الكثيرين طبعًا؛ أولًا لأنها غير مسبوقة، وثانيًا لأنها تمثل تهديدًا وجوديًّا حقيقيًّا للفكرة ذاتها، فكرة الحصانة المطلقة وأسلحة الابتزاز العاطفي والتاريخي التي أنفقت الصهيونية عقودًا ومئات المليارات في بناء أدواتها، لتصبح الصهيونية والسامية فكرة فوق الأفكار، تعبر عن بشر فوق البشر.
هدرت الآلة الصهيونية الإعلامية مرة أخرى بعنف أشد، وبتنسيق واسع وباهر كالعادة، لتشويه الرجل واغتياله معنويًّا ووظيفيًّا، ولكنها، أثناء هديرها، منحت ميلر وأمثاله أملًا قلّما تمنحه لأحد.
أتى الهدير كسولًا مُدلّلًا إن جاز التعبير؛ جولة طويلة متأنية في التقارير ومقالات الرأي التي تبنت الرد الصهيوني على حكم بيراني ستكشف لك حالة الإنكار والعجز التي عاشتها الآلة الصهيونية في تلك اللحظة.الدليل؟ سنخبرك بمعلومة يمكنك التأكد منها بنفسك؛ من بين كل هذه المقالات والتقارير، من ديفيد هِرش في “ذا جويش كرونيكل”، مرورًا بديفيد فِلدمان وكنعان لِبشِتز في هآرتس، وحتى رتشِل أودونوهيو في “أونست ريبورتِنغ”، لم تُناقَش حُجة ميلر مرة واحدة، لم يتعرض أي منهم لفكرته بالنقد والتمحيص والتدقيق، لم يحاول أي منهم مخاطبة المتشككين أوالمتسائلين، وكل ما حصلنا عليه هو أشبه بـ”كورال جماعي” يرتكب ذات الخلط الذي يتحدث عنه ميلر بين اليهود وإسرائيل، وكأنهم يؤكدون نظريته، ويرددون “مُعادٍ للسامية” بلا توقف، وكأن هذا كافٍ بحد ذاته لإسكات أي حُجّة، مهما كانت موضوعيتها وقدرتها على مخاطبة وعي الناس.هذا الكسل والاستسهال والعجز عن المواجهة والتفكيك والنقد الفعلي، يُبطن صدمة عنيفة من الفشل الذي لم يكن متخيلًا قبل تلك اللحظة، وتحديدًا، في إنجلترا؛ الدولة التي أفنت الحركة الصهيونية أعمارهم في استمالتها رفقة الولايات المتحدة وألمانيا، والتي نجحوا في “تهذيب” و”تشذيب” و”اختراق” معارضَتها، حتى صار زعيمها الحالي، كير ستارمر، يزايد على رئيس الوزراء ريتشي سوناك في محاباة سلطة الاحتلال.
المحاباة والانحياز والانصياع
لو كان هناك أمر واحد يُنبئ بسقوط الصهيونية كما يتوقع المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، فهو حقيقة أن الجيل الحالي من الصهاينة ألِف التدليل الزائد، وألِف المحاباة والانحياز والانصياع، وصار يظن أن الوقاحة وحدها تكفي كما يقول بابيه، وأن قضيته لم تعد بحاجة إلى الإقناع بجدواها ومشروعيتها، ولم يعد يملك سوى إساءة استغلال مكاسبه السابقة، واستهلاك المصطلحات والفزّاعات حتى تفقد معناها وقيمتهافي ذلك درس بديهي قديم جديد لا يُمَلّ من تكراره أبدًا؛ لا تواجه عدوك بأدواته أبدًا، لأنها أدواته ببساطة، ولأنها مُعدّة مسبقًا لتمنحه الانتصار في كل مرة، ولأن مواجهة واحدة حقيقية ناجحة بقواعد متكافئة، حتى لو أتت بعد مئة محاولة فاشلة، أفضل وأكثر فاعلية من ألف مواجهة مزيفة بقواعد عدوك، لن تنتصر في أي منها.