رئيس التحرير يكتب : التفكير الاستراتيجي وضرورة هدم الكهوف !!
نسمع كثيرا خلال السنوات الاخيرة تلك العبارة ” حل أزمات مصر يحتاج إلى حلول من خارج الصندوق “. وشاع استخدام هذه العبارة على لسان كبار المسئولين وصغارهم ، ورغم ذلك تتفاقم الأزمات مما يؤكد أنها مجرد كلمات تخرج من حناجر المسئولين دون أدنى ايمان بأهميتها ، وبالتالي لم يسلكوا أي توجه عملى لتنفيذها على أرض الواقع .
يبدو أنه من الصعوبة على غالبية المسئولين أن ينسوا ولو للحظات أنهم أكثر المصريين فهما ولديهم علم ببواطن الأمور وظاهرها ولا حل الا ما يرونه . فهل يصدقون مقولة رجل الشارع الساخرة ” انتم الحكومة .. عارفين كل حاجة “؟ ومن ثم لا يهتمون بأي رأي معارض أو فكرة جديدة حتى ولو كانت من داخل الصندوق .
ويا ليتهم يكتفون بعدم الاهتمام بل إنهم يسلطون زبانيتهم على أصحاب الاراء المخالفة ويطاردونهم حتى يدفعوهم إلى دخول الكهف ليسجنوا داخله مع أفكارهم حتى يبلغوا سن التقاعد أو يخرجون معاش مبكر، أو يضطرون للمغادرة خارج الوطن. وروى لي صديق أنه جلس في كهف داخل وزارة تابعة للمجموعة الاقتصادية حوالى 20 عاما لأنه اعتاد على الجهر برأي يخالف قناعات قيادات الوزارة . وقال انه في كل وزارة أو مؤسسة أو هيئة عامة إدارة هامشية ينقل اليها أصحاب الأراء المعارضة أو الأفكار غير التقليدية عقابا لهم ويطلقون عليها مسمى الكهف . واعترافات الصديق ذكرتني بقسم الاستماع في جريدة الجمهورية الذين ظل طوال 30 عاما مأوى لكل المحررين المغضوب عليهم من رؤساء التحرير .
والحلول خارج الصندوق أي الحلول غير تقليدية والمبتكرة يضعها أصحاب الفكرالاستراتيجي. وقد ظهر مفهوم التفكير الاستراتيجي في إطار أكاديمي واضح لأول مرة عام 1994 من بنات افكار المفكر الكندي هنري منتسبرغ الذي يرى أنه “طريق خاص للتفكير، يهتم بمعالجة البصيرة، ويحسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الإستراتيجية وانه يعتمد على الابتكار وتقديم أفكار جديدة “.
أما خصائص التفكير الاستراتيجي فهي متعددة وأتفق مع أحمد الشطيري بمركز الدراسات الإستراتيجية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية ، أن أهمها ثلاثة : أولا أنه يعتمد الإبداع والابتكار في البحث عن أفكار جديدة أو يكتشف تطبيقات مستحدثة لمعرفة سابقة، وهو لذلك يحتاج إلى قدرات فوق العادية للتخيل والتصور والإدراك. وثانيا أنه تفكير تطويري أكثر منه إصلاحي لكونه يبدأ من المستقبل ليستمد منه صورة الحاضر ولذلك يُوصف بأنه استباقي . وثالثا والأهم من وجهة نظري أنه تفكير تفاؤلي وإنساني يؤمن بقدرات الإنسان وطاقاته العقلية على اختراق عالم المجهول والتنبؤ باحتمالات مما سيقع ويحث على وجوب توظيف المعرفة المتاحة وتوفير الأجواء المشجعة على المشاركة في صناعة المستقبل.
وأرى أن التفكير الاستراتيجي من أهم مقومات الأمن القومي ويكفي لتأكيد ذلك أن انتصار العاشر من رمضان السادس من اكتوبر عام 1973 ساهم في صنعه أصحاب أفكار استراتيجية من أمثال الضابط المهندس الشاب باقى زكى يوسف ياقوت صاحب فكرة استخدام المياه لإحداث ثغرات فى الساتر الترابى لخط بارليف والتي يعتبرها الخبراء مفتاح النصر .
ومصر لديها الكثيرين من المفكرين الاستراتيجيين وأصحاب العقول الخلاقة ، وأعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد العقول المصرية المهاجرة إلى الخارج بلغ 824 ألفًا، من بينهم 11 ألفا في تخصصات نادرة و94 عالما في الهندسة النووية و36 في الطبيعة الذرية و98 في الأحياء الدقيقة و193 في الالكترونيات والحاسبات والاتصالات، وهجرتهم تتسبب في خسارة مصر لأكثر من 54 مليار دولار سنويا.
وحل أزمة التفكير في مصر على المدى القصير يبدأ بتوافر الجدية والارادة لدى الحكومة لتوفير الاجواء الآمنة كي يظهر أصحاب الأفكار المبدعة وتنطلق لديهم ملكة الفكر ، وإتاحة مساحة واسعة لهم في وسائل الاعلام لعرض نتاج أفكارهم. والمسارعة بهدم الكهوف داخل الوزرات والمؤسسات التي يسجن بها أصحاب الأراء والمواقف المعارضة . والاسراع بالاستعانة بعلماء مصر في الخارج كل في تخصصه لوضع حلول للأزمات والأهم تنفيذ مقترحاتهم ، خاصة وأن غالبيتهم أعلنوا مرارا استعدادهم لمساعدة وطنهم .
أما بناء أجيال من المفكرين الاستراتيجيين على المدى الطويل فيبدأ باستماع الوالدين لأطفالهم وعدم الضجر من أسئلتهم ، والاجابة بود عن كل إستفساراتهم حتى ولو كانت تبدو تافهة . حتى اذا بدأ الابناء مرحلة الدراسة ينبغى توفير المعلم المؤهل ومنحه المرتب الذي يكفي كل احتياجاته حتى يتفرغ لليوم الدراسي الكامل، وإيجاد بيئة مدرسية جاذبة للتلاميذ ، وتطوير مناهج تطلق الروح الابداعية وتعزز التفكير النقدي مع الاهتمام المنظم بالموهوبين. وفي مرحلة الجامعة والدراسات العليا يكون الفرز الحقيقي للعقول المبدعة والعمل على توظيفهم في قطاعات الدولة للإستفادة بنتاج أفكارهم.