في لقاء مفعم بالهموم المصرية مع مجموعة من الاصدقاء من مدمني حب مصر ، طرح أحدهم سؤالا هو : هل الشعب المصري مستعد للمشاركة في التنمية ؟أم أنه يظل طول الوقت يندب حظه وينتقد الأداء الحكومي، في الوقت الذي لم يفكر مرة واحدة في أدائه هو سواء داخل اسرته أو في عمله أو حتى أثناء سيره في الشارع.
وتذكرت سريعا قاعدة اقتصادية هامة بأن ” الانسان هو محور التنمية”، فهو أداة التنمية وهدفها في الوقت نفسه . فكيف يصنع المصريون تنمية حقيقية والغالبية العظمى من العاملين في الجهاز والمؤسسات والهيئات حكومية لا تراعي ضمير او قانون قي وقت العمل. فهناك الملايين من العاملين يذهبون للعمل للتوقيع في دفتر الحضور ثم يخرجون هائمين في الشوارع. فمصر تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلئ شوارع مدنها بالناس في وقت ساعات العمل . واعرف كثير من الناس يتغيبون عن عملهم بلا مبرر لعدة اشهر متواصلة وتصلهم المرتبات والمكافئات عبر حساباتهم البنكية. بل إن بعضهم تجرأ وقام بتعنيف رؤسائه عندما نقصت المكافأوة بضعة جنيهات .
ويشهد بتكاسل غالبية الشباب المصري امتلاء المقاهي ليلا ونهارا في وقت تستعين المصانع في المدن الصناعية بالعمال الأجانب . وتواجهني شخصيا مشكلة البحث عن وظائف لبعض الاقارب والاصدقاء . فعندما وفرت لهم فرص عمل بالمصانع تبدأ بـ 1500 جنيه شهريا رفضوا وقالوا ” شغل في الحكومة يا بلاش ” . بل إن أحدهم حاصل على مؤهل متوسط حدد الامكان التي يقبل العمل بها وهي شركات البترول أو البنوك أو الكهرباء أو الاتصالات ، وكانت إجابتي الصمت حت الان .
وعدوى الكسل انتقلت الى القرى التي تحولها معظمها من قرى منتجه الى قرى مستهلكة ، يشهد بذلك كثرة المخابز ومحلات فراخ المزارع والمحلات التي تبيع الألبان والاجبان المصنعة بالشركات الكبرى . واثناء زيارة لقريتي – التي تبعد حوالى 2 كم عن القاهرة – أشاهد تزايدا في أعداد المقاهي التي يسهر عليها الشباب حتى الفجر ثم ينامون حتى دون صلاة حتى عصر اليوم التالي . ومرت الايام التي كان غالبية اهل القرية يستيقظون مع آذان الفجر وبعد الصلاة يتوجهون مباشرة الى الحقل للعمل ، وعند آذان المغرب يتهيأ الجميع للعودة للمنزل لتناول العشاء وصلاة العشاء والجلوس للسمر قليلا ثم النوم وهكذا كا يوم الفلاح المصري الي بنيت على اكتافه أول حضارة عرفتها الإنسانية .
بل أن قانون العمل المعمول به منذعشرات السنين يساعد على قلة الانتاجية . ويؤكد خبراء الاقتصاد أن خسائر مصر بسبب الأجازات تتعدى 1.4 تريليون جنيه سنويا، لأن أيام العمل الرسمية فى السنة 250 يوما، فى حين تبلغ عدد أيام الإجازات للأعياد والعطلات الرسمية والمواسم وبدل أيام الجمع 60 يوما، بينما الإجازات التى من حق العامل 45 يوما ومن حق الموظف فى الحصول على إجازة مرضية يجب إن لا تتعدى 60 يوما، وبالتالى يتبقى 85 يوما هى عدد أيام العمل الفعلية. والغريب أن قانون العمل الجديد الذي تم اقراره منذ عدة أيام لم يركز على وضع آليات لزيادة الانتاجية وتحفيز بل انه للاسف الشديد ركز على تصفية ملايين العاملين استجابة لشروط صندوق النقد الدولي بمنح مزايا للتقاعد المبكر .
والموضوعية تدفعنا إلى القول بأن العامل المصرى يتقاضى أجرا هو الأقل على مستوى العالم، وقد يكون هذا أحد أهم الأسباب فى قلة ساعات عمله، وضعف الانتاجية في ظل انتشار المقولة الفاسدة ( على أد فلوسهم ) .
وأثناء احتدام النقاش تكلم أحد الاصدقاء وهوحاصل على الدكتوراة في الاقتصاد ويتمتع بخبرة عملية طويلة ولخص القضية بقولة أن مصري تعاني من غياب رأس المال الإجتماعي . فمصر تعاني من انعدام الثقة بين المواطنين والحكومة ، وانعدام الثقة في مؤسسات المجتمع الخدمية والتربوية ، وانعدام الثقة بين الافراد وبعضهم البعض إلا فيما ندر . وغياب الشفافية وتكافؤ الفرص وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية وكلها أمراض إجتماعية تنخر في بنية المجتمع وتعوق أي جهد حقيقي للتنمية.
وبالبحث عن الموضوع وجدت أن رأس المال الإجتماعي لا يقل أهمية عن رأس المال المادي .وأتفق تماما مع تعريف الدراسة التي أجراها الباحث أحمد ابو زيد وآخرين ضمن مشروع بحثي لمركز بحوث ودراسات الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن التنمية الشاملة والمستدامة هي التي فرضت على الإنسان، أن يعدل من فهمه لرأس المال، ففي عقله رأسمال، وفي روحه رأسمال، وفي نفسه رأسمال، وفي علاقاته مع الآخرين رأسمال، وفي بيئته الطبيعية رأسمال، وحتى في أحلامه وخيالاته رأسمال.
وإن شاء الله نتناول في الاسبوع المقبل أسباب فقدان رأس المال الإجتماعي وكيفية إستعادته والمجال مفتوح لمقترحات القراء الأعزاء.