لم تتمكن السيدة العجوز من إمساك دموعها فسالت بغزارة أمام كاميرات إحدى الفضائيات ، وهي تقول بصوت متقطع ومخنوق : ” ليس معى فلوس أشترى الدواء .. لا أنام طول النهار والليل من آلام الأمراض الكثيرة المنتشرة في جسدي”. فعدم القدرة على شراء الدواء أصبح داء يعاني منه حوالى 40 % من المرضى في مصر ، والاقلية المحظوظة منهم من تجد فاعل خير أو جمعية خيرية أو جار محسن يتولى توفير الدواء لهم ، أما الباقون فينهشهم الالم المستمر حتى تنتهي أعمارهم . فماذا سيكون حال الفقراء بعدما وافق وزير الصحة على زيادة الاسعار بنسبة 50% لتكون الزيادة الثانية خلال بضعة اشهر حيث زاد اسعار الدواء 20% مايو الماضي .؟!
والوجه الآخر لأزمة الدواء هو اختفائه من الصيدليات ، وهذا الاختفاء يتم غالبا بفعل مافيا الأدوية التي تحتكرها في انتظار الضغط على الحكومة لرفع أسعارها. وتحولت اختفاء أو نقص الدواء الى داء أيضا يعاني منه المصريين ، ولنا أن نتصور خطورة الأمر إذا علمنا أن عددها حوالى 1500 نوع دواء بالاسم التجاري طبقا لإحصائيات أعلنها الدكتور علي عوف رئيس الشعبة العامة للأدوية في الغرف التجارية ونشرتها صحيفة الاخبار يوم 10 ابريل الماضي ،منها 200 صنف تتعلق بأدوية السكر والضغط والقلب والأورام والجهاز الهضمي ومضادات الحساسية ، ومنها أكثر من 30 صنفا تعالج أمراضا خطيرة ومزمنة ليس لها بدائل في السوق.
والوجه الثالث لأزمة الدواء يتمثل في الخلل في التصنيع ويمثل في أمرين في غاية الخطورة الأول استيراد 95% من الخامات الدوائية مما يجعلنا رهينة في يد الأجانب وهي قضية تمس بالامن القومي المصري. وثانيها الاحتكار من جانب القطاع الخاص حيث تستحوذ 30 شركة على 90 % من السوق المصري بعد أن تم اضعاف شركات انتاج الدواء التابعة للقطاع العام عن عمد ، مما جعل السوق والحكومة رهينة في يد المستثمرين .
والوجه الرابع لأزمة الدواء يتمثل في توزيعه من خلال الصيدليات ، ويشرح أبعادها صيدلى أحمد عامر عضو مجلس نقابة الصيادلة ورئيس لجنة الدخلاء بالنقابة بقوله أن نحو 40% من الصيدليات يملكها ويديرها غير الصيادلة، أى أن هناك نحو 28 ألف صيدلية لا علاقة للصيادلة بملكيتها أو بإدارتها، من اجمالى عدد الصيدليات بمصر والتي تبلغ 70 ألف صيدلية .
وأرى أن حل أزمة الدواء بجميع أوجهها بشكل عملى طرحته نقابة الأطباء بعد دراسة مستفيضة وأصدرته في بيان أرسلت لي نسخة منه ويأتي على مرحلتين . على المدى القصير ويشمل عدة خطوات أهمها: إعداد قائمة بالأدوية الاساسية التي لا يمكن للمواطن الاستغناء عنها ، ويتم دعم الشركات المحلية التي تنتجها بحيث لا يتم زيادة سعر بيعها ، أما الأدوية الاساسية التي لا توجد لها مثائل محلية فيجب أن تتولى الدولة إستيرادها مع توفير الدعم الذي لا يسمح بإرتفاع سعرها على المرضى . ومراجعة تسعير الأدوية الأصلية بعد إنتهاء فترة حق الملكية الفكرية وبدء إنتاج المثائل . ومراجعة دقيقة لنظام تسعير كل دواء على حده ، بحيث يتم رفع سعر بعض الأدوية التى تزيد تكاليف إنتاجها عن سعر بيعها الرسمى ، ويتم خفض البعض الأخر المسعر بتسعيرة مغالى فيها. ودعم دور وسلطة الهيئة القومية للبحوث والرقابة الدوائية ، وذلك بإعطائها حق التفتيش المفاجئ على شركات الأدوية والمستلزمات والمستحضرات الغذائية وأخذ عينات للتحليل ، وإلزام إدارة الصيدلة بوزارة الصحة بمنع تداول أي تشغيلة تقرر هيئة الرقابة مخالفتها للمواصفات.
وتشكيل لجنة تقصي حقائق تضم كافة الأطراف المعنية ( لجنة الصحة بالبرلمان – إدارة الصيدلة بوزارة الصحة – غرفة صناعة الدواء – نقابتي الصيادلة و الأطباء – لجان الحق في الصحة والحق في الدواء ) لتشخيص الأزمة بكل أبعادها ووضع حلول عملية لها ومراجعة فوضى سياسات التسعير ، التي تسمح بوجود مثائل لنفس الدواء بعضها بحوالي 20 جنيها وبعضها بأكثر من 200 جنيها.
وإغلاق الأبواب الخلفية لتسجيل بعض الأدوية بعيدا عن التسعيرة الجبرية ، مثل تسجيل بعض الأدوية باعتبارها مستحضرات غذائية أو مستحضرات تجميل مع ضرورة إخضاع كل المستحضرات المتداولة لإعادة الفحص والتسعير .
أما على المدى متوسط الأجل يتمثل الحل في وضع سياسة دوائية حاكمة تهدف إلى دعم صناعة الدواء المصري ، وإستعادة وضع مصر الذي كان متميزا في مجال الدواء ، ودعم وتشجيع البحث العلمي في مجال الدواء حتى لا يتم إستيلاء الشركات متعددة الجنسيات على سوق الدواء كاملا خلال عدة سنوات. ودعم شركات قطاع الأعمال العام ، التي إنكمش دورها في الثلاثين سنة الأخيرة إنكماشا شديدا ، حيث أصبحت تغطي 4% من سوق الدواء المصري بعد أن كانت تغطي حوال 60% . والسعي لإقرار نظام تأمين صحي إجتماعي شامل ، يؤمن احتياجات المصريين من الدواء عن طريق مناقصات عامة ، تفضل الدواء المصري المماثل فى الجودة والفاعلية .