
بقلم / حسن السعدني
حين ترتجف القلوب من صوت الإنذار “حريق حريق حريق ” الصوت يمزق سكون المدينة، و ألسنة النار تُطلُّ من نوافذ البيوت كوحوش جائعة، لا يُهرول الناس إلا إلى النجاة، ولا تُرفع الأبصار إلا إلى السماء تستجدي الغيث، إلا أولئك…
أولئك الذين لا يركضون بعيدًا عن الحريق، بل يركضون إليه، في وجهه، داخل أحشائه، وعلى جباههم مكتوب: “نحن الحصن، نحن الأمل، نحن درع الحياة”.
ما الذي يدفع إنسانًا إلى معانقة النار؟
ما الذي يجعله يلبس بدلته الثقيلة، ويحمل خرطوم الماء، ويتقدم إلى الجحيم وكأنه ذاهب إلى صلاة؟
أهو حب الوطن؟ أهو القسم الذي أقسمه ذات يوم؟
أم هي الفطرة التي خُلقت لتمنح لا لتأخذ، لتُطفئ لا لتُشعل، لتُنقذ لا لتُشاهد؟
هؤلاء ليسوا رجالًا عاديين.
هؤلاء خرجوا من رحم الأرض، وفي قلوبهم نبض النيل، وفي أرواحهم شموخ الأهرامات.
في ليلة كالحة، لم يذوقوا فيها طعم النوم، وبين ألسنة لهب تتراقص كأنها شياطين خرجت من الجحيم، ظلوا واقفين.
جباههم تلمع بالعرق والدخان، وأيديهم متشبثة بالأمل.
في سنترال_رمسيس، لم تكن الحكاية مجرد حريق…
كانت ملحمة.
صراعًا مريرًا بين الاحتراق والبقاء، بين الموت والحياة، بين أن يُكتب على الجدران: “كان هنا قلب ينبض”، أو أن يبقى المكان شاهداً على بطولات لا تمحى.
لم ينسحبوا.
لم يتخاذلوا.
لم يقل أحدهم: “لقد تعبت”.
كل ما قالوه بصمت أجسادهم هو: “نحن هنا. ولن نترك أحدًا خلفنا”.
تخيلوا وجوههم وهم يخرجون الموظفين من الدخان، يرفعون المُسِنّين على أكتافهم، يتنفسون الغبار كأنهم يبتلعون النار، ثم يعودون ثانية إلى الداخل، إلى الخطر، إلى المجهول…
أهذه بطولة؟
لا.
هذا ما بعد البطولة، ما لا تبلغه اللغة، وما تعجز عن وصفه الحروف.
منذ الأمس، لم يغمض لهم جفن.
لم تُطفأ عيونهم إلا بالنار، ولم يهدأ تنفّسهم إلا في عربات الإطفاء التي كانت كأنها سفن نجاة وسط بحر من الجمر.
أكلوا قليلاً، وشربوا أقل، لكنهم أعطوا كثيرًا، كل شيء تقريبًا…
إلا الكرامة، لم يفرّطوا فيها.
وإن تساءلت يومًا عن الرجولة، عن الشهامة، عن الفداء، فلا تبحث بعيدًا.
اذهب إلى حيث وقفوا، وشاهد الأرض التي لامست أقدامهم، وقل:
“هنا مرّ الأبطال”.
أبطال الحماية المدنية ليسوا مجرد موظفين يرتدون زيًّا رسميًا.
هؤلاء جنود مجهولون في زمن امتلأ بالصور والنجوم والضوضاء.
يعملون في الظل، لكنهم يُضيئون حياة الآخرين.
يمشون على الأرض، وقلوبهم في السماء، وأرواحهم بين ألسنة النار.
يا رجال مصر الشرفاء، يا من تحملون الخراطيم كما يحمل الجندي سلاحه،
يا من تنام أعين أطفالنا وأنتم مستيقظون،
يا من نركض من النار وأنتم تركضون إليها،
لكم منا مليون تحية.
لكم منا سجدة شكر، ودعوة في جوف الليل، ودمعة فخر.
وإن كان لابد من وسام، فلن تُمنحوا وسامًا على صدوركم، بل على قلوبنا.
وإن كنا لا نملك إلا الكلمة، فها هي تصير شعلة ضوء في طريقكم،
لتقول:
“شكراً، يا من جعلتم أرواحكم وقودًا لإطفاء النيران.”